سوريا: إلى الوراء دُرْ

2019.04.21 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تعبّر سوريا اليوم في معجم الثورات العربيّة عن حالة "الثورة المُجْهَضة"، فالدمار الهائل الذي لحق بالبلاد حوّلها إلى نموذج منفّر ومخيف. والشعوب العربيّة ترتعد من المثال السوري وتَجْهد للتمايز والافتراق عنه، والأنظمة الاستبدادية تلوّح للثائرين به، كمصير محتوم لأيّ ثورة شعبية. 

ظاهريّاً، الأمر مفهوم، ومن يرى حال السوريين ومآسيهم في مشارق الأرض ومغاربها، يحق له التخوف والحذر، وما من عاقلٍ يتمنى أنْ يحلَّ كلّ هذا الخراب والدمار في وطنه. أما واقعيّاً، فتعتبرُ هذه النظرة مجتزأة ومتعامية عن حقيقة أنَّ الثورة السورية مرّت بمراحل وأطوار متعددة، وما يعيشه الثوار الجزائريون والسودانيون اليوم من ألقٍ وفخرٍ في حضاريةِ وسلميةِ حراكهم، عاشه السوريون وتغنّوا به سابقاً. وحتى إنْ استكنّا إلى وجهةِ النظرِ التي تقول إنَّ الأمور بخواتيمها، فالثورة السورية وإنْ لم تستطع تغيير أو إسقاط نظام الحكم؛ إلا أنها هشّمت بعض دعائم الاستبداد وخلخلت أسسه. وهذا لا يعني أننا من أنصار المقولة الرومانسية: "الثورة أسقطت كل شي إلا رأس النظام"، التي يمنّي بها بعض المعارضين النفس ويُبَرر من خلالها الفشل. بل إنّنا نبني كلامنا على واقع سلوك السلطات السورية اليوم، والتي بعد أنْ بدا استقرار نتائج المعارك العسكرية لصالحها، شَرعت بمحاولة إعادة إنتاج الاستبداد واستعادة سطوته في عقول وقلوب السوريين، وأصدرت الأمر الصريح: "إلى الوراء دُرْ".

تتمثلُ ثلاثيةُ الاستبداد بالذّل وكمّ الأفواه وإفساد المجتمع

يمكن الحديث هنا عن ثلاث ممارسات أساسيّة متداخلة، شكلت في الماضي العمود الفقري لاستقرار النظام التسلطيّ في سوريا، وتعتقد السلطات السورية اليوم أنه لن يستقر لها حكمٌ دون إعادة ترسيخها وتجذيرها في المجتمع السوري من جديد. تتمثلُ ثلاثيةُ الاستبداد هذه بالذّل وكمّ الأفواه وإفساد المجتمع، والتي تحوّلت مع الزمن إلى معادلة أو منهج حُكم، تطبّق على الأفراد والجماعات على حدٍّ سواء. وإنْ أردنا تبسيط هذه المعادلة أو عرضها بشكل هزلي، فهي شبيهةٌ بآليةِ تعامل الضباط في الثكنات العسكرية مع المجندين "الأغرار"؛ فالمجند يجب إذلاله وتجريده من أيّ كرامة إنسانية أولاً، وتطويعه على الصمت وبلع لسانه ثانياً، ومن ثمَّ صهرهِ في بوتقة الفساد القائمة أخيراً. بمعنى آخر، أنت في ظل هكذا معادلة، لست فقط بلا كرامة وبلا صوت؛ وإنّما عليك الانخراط في منظومة الفساد لتغدو قيمتك كإنسان تتناسب طرداً مع ما تملكه من مال أو علاقات في عالم المال والسلطة.

تدركُ مراكز القوى المختلفة داخل النظام السوري أنَّ الثورة حققت اختراقات أصيلة على مستوى هذه المعادلة، استفاد منها السوريون على اختلاف مشاربهم، لذلك فهي تسعى بكلِّ جُهد لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وخنق كلّ مكتسب تحقق خلال السنوات الماضية. فعلى مستوى الإذلال، تدلُّ كلُّ المؤشرات على أنَّ هناك منهجاً واضحاً في انتهاك كرامة المواطن السوري وكسر كبريائه بدءاً من لقمة عيشه، وليس انتهاءً بضميره ووجدانه. فلا يوجد هناك أيُّ اعتبار لكرامات الناس وآلامهم وانكساراتهم؛ فلا توفر السلطات السورية أيّ مناسبة أو فرصة للتمعّن في إذلال السوريين وتحطيم معنوياتهم وأنَفتِهم. فالمصالحات التي رعتها روسيا تم الالتفاف عليها وإخراجها بطريقة مذّلة ومهينة، وبدل من اعتبارها فرصة لتهدئة النفوس وتطييبها، تم استغلالها في فرض عتبة عالية من الذل، كان آخر تجلياتها إعادة زرع التماثيل التي حطمها السوريون في الأيام الأولى للثورة في درعا وغيرها من المدن. كما تطبق أيضاً جرعات عالية من الإذلال وامتهان الكرامة في التعامل مع اللاجئين العائدين إلى سوريا حديثاً، لا بل إن العديد من التقارير و المعلومات تؤكد مقتل عدد من منهم بعد أسابيع من دخولهم لسوريا. وفي الضفةِ الأخرى، يُمارس في المناطق التي لم تخرج عن سيطرة الحكومة السورية كلّ أنواع امتهان الكرامة والاستهزاء بعذابات الناس وفاقتهم. فتحولت هذه المناطق إلى غابات بلا قانون؛ تُرتكب فيها الجرائم والاعتداءات من قبل عصابات احترفت السرقة والتشبيح، وتُحتقر وتُذّل فيها عائلات الضحايا  والجرحى أو اليتامى والأرامل دون وازع أو ضمير. 

أمّا على مستوى كمّ الأفواه وتقييد الحريات، فبعد أنْ سخّرت السلطات السورية الانفتاح الإعلامي للسوريين، وخاصة في الشبكات الاجتماعيّة، للدفاع عنها طوال السنوات الماضية؛ تسعى اليوم بكلِّ وسائل الترهيب والترغيب إلى تطويع تلك الشبكات وقولبتها أسوةً بالإعلام السوري المدجّن والمخصي أصلاً. وبهذا خابت ظنون العديد من الإعلاميين الجدد، الذين ظنّوا أنّه من الممكن أنْ يكون لهم دور بعد خفوت نيران الحرب؛ وبدأت تطالهم حملات الاعتقال والتخويف والتخوين، وسُنّت القوانين الفضفاضة والتهم الغوغائية من قبيل "النيل من هيبة الدولة ووهن نفسيّة الأمة !". وأُعيد رسم الخطوط الحمراء ذاتها، المرفقة بفتحات تهويّة "تنفيسيّة" بين الحين والآخر.

هناك نوع من تقزيم وتسخيف القضايا الكبرى الأساسيّة وصرف الأنظار عنها، مقابل التركيز على مشاكل يوميّة حياتيّة متكررة وتضخيم أبعادها

فهناك نوع من تقزيم وتسخيف القضايا الكبرى الأساسيّة وصرف الأنظار عنها، مقابل التركيز على مشاكل يوميّة حياتيّة متكررة وتضخيم أبعادها، فيصبحُ حجم رغيف الخبز أو تسريب أنبوب الصرف الصحي قرب بيت "أم علي" في "جبل الورد" أو سرقة الكهرباء في "عش الورور" قضايا تشغل وسائل الإعلام السوري بكل أنواعه. أمّا من يتفوه بكلمة واحدة في قضايا الفساد واحتكارات التجار للسلع والتلاعب بقوت المواطنين، وغيرها من المسائل التي تمس مافيات السلطة والمال؛ فسيكون مصيره كمصير"وسام الطير" أو غيره ممن مُنعوا من العمل الإعلامي بالقوة والإكراه. 

وليكتمل مثلث الاستبداد، تعمل السلطات السورية على إفساد متعمّد لكل مناحي الحياة وجوانبها، فالفساد تحوّل إلى ثقافة عيش، تجتاح سوريا أفراداً ومؤسسات، من المدارس والجامعات والنقابات إلى القضاء وشعب التجنيد ومراكز الهجرة والجوازات والمعابر الحدودية وغيرها. يترافق هذا الفساد بتضخّم في حالة الرياء والنفاق الاجتماعيّ، وبمسرحيات هزليّة من التملّق والتطبيل، فترى الإنسان، بالرغم من عظيم الذل والفاقة والألم، يتحول بلمح البصر إلى مهرّج يرقص ويتمايل في المناسبات والاحتفالات الوطنية. وهذا الأمر (للأمانة التاريخيّة) هو ماركة مسجّلة باسم الرفاق البعثيين وأبناء جلدتهم في المنظمات والنقابات الهزلية. فالبعثيون، الذين وَجدوا في الأزمة فرصةً ذهبيةً للانسلالِ من جديد في شبكات الفساد والسلطة، هم خير من دَبَكَ ونخّ وشوبش وتملّق، وأمْهَرَ من نَظم الخطب والشعارات الرنانة الجوفاء، وأول من افتتح مزادات الرياء والتهريج وتقديم الولاءات الأبدية.