سوريا من هجرة العقول إلى تهجير الأيدي الماهرة

2021.09.09 | 06:32 دمشق

topic950-q.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ أيام أعلنت الوكالة الاتحادية للتوظيف في ألمانيا، عن حاجتها لـ 400 ألف مهاجر سنوياً، وقد ذكر رئيس الوكالة الاتحادية للتوظيف "ديتليف شيل" في تصريحات إعلامية "أن ألمانيا تحتاج إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر سنويا لتعويض النقص في اليد العاملة"، وبالتأكيد سيتم جلب هذه المهارات من بلدان تصدر المهاجرين يومياً، وفي مقدمتها سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها.

ومن المعلوم أن ملايين السوريين الذين هاجروا إلى دول الجوار "تركيا. لبنان. الأردن" وإلى أوروبا، يشكلون ثلثي الخبرات والأدمغة والأكاديميين السوريين كحد أدنى، وأن هؤلاء هم حصيلة تراكم سنوات طويلة من العمل والبناء، والذين كانوا رغم الظرف السيئ الذي عاشوه في سوريا، دعامة البناء الأساسية، والعامل الأهم في أي نهوض أو بناء مأمول، بعد سنوات الحرب التي دمرت الشطر الأوسع من البنية التحتية والاقتصادية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ هذه الهجرة لم تبدأ مع بداية عام 2011 بل هي قائمة ومتنامية منذ تأسست دولة الأسد "1970"، والتي أحكمت قبضتها الأمنية على كل مفاصل الحياة، وجعلت الأفق معدوماً، وأفقرت مؤسسات البحث العلمي، وقصرتها على المؤسسات التي تخدم برامجها الأمنية، وبذلك أوصلت الأدمغة والكفاءات السورية إلى حافة اليأس، أمام وضع أمني مأزوم، ومستوى دخل معيشي متدني، مع غياب مطلق لأي أمل بالتطور أو تغيير الأوضاع نحو الأفضل، كل هذا جعل من الهجرة منفذاً وحيداً للخلاص.

عودة هذه الأدمغة أو الأيدي العاملة المهاجرة إلى الغرب مستقبلاً محض أوهام، بعد أن وصل هؤلاء إلى حلم العيش في مجتمعات أوروبية تكفل لهم الحد الأدنى من الكرامة والحرية والعيش، الذي يضاهي بحدوده الدنيا، الحد الأعلى الممكن توفره في سوريا الحاضر أو المستقبل المنظور.

واليوم تنتقل الأزمة بنا إلى طورٍ أعمق وأصعب، حيث تستنزف الأيدي العاملة الماهرة، التي لن تتردد إن أتيح لها، بالقفز خارج خريطة الحرب والموت.

الجدير بالنظر أنَّ أيَّ تفكيرٍ في مستقبل سوريا القريب، وسبل إعادة بنائها وإعمارها، إنما يستلزم بالضرورة، التفكير في توفر القدر الكافي من الخبرات والكفاءات والأيدي الماهرة، التي لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها، وأنَّ النسبة الكبرى من المهاجرين، وخاصة إلى أوروبا هم من الشباب، ومن الطاقات العلمية والأيدي العاملة، بينما كانت نسبة الكهول من المهاجرين تفضل تركيا ولبنان والأردن لسهولة الوصول.

هناك نقطةٌ جديرةٌ بالنظر، أنَّ عودة هذه الأدمغة أو الأيدي العاملة المهاجرة إلى الغرب مستقبلاً محض أوهام، بعد أن وصل هؤلاء إلى حلم العيش في مجتمعات أوروبية تكفل لهم الحد الأدنى من الكرامة والحرية والعيش، الذي يضاهي بحدوده الدنيا، الحد الأعلى الممكن توفره في سوريا الحاضر أو المستقبل المنظور.

وإذا أخذنا بالحسبان أن نسبة الهجرة في الكوادر التعليمية عامةً، تجاوزت الستين في المئة، فإن مستقبلاً غائماً ينتظر أطفالنا وشبابنا، الذين لم يتمكنوا من الهجرة بعد، والذين لن يجدوا أملاً في مؤسسات تعليمية تنهض بهم وتعمل على إعدادهم لمستقبلٍ، لم نعد نبصر له أفقاً، بعد أن أضحى ملايين الأطفال السوريين في الداخل والخارج، بعيدين عن الأطر التعليمية ومؤسساتها، الأمر الذي يعني استمرار النزيف والتسرب إلى سوق العمل التي تستغلهم، وتجعلهم نهبة الفساد والإفساد.

إلى أين تسير سوريا، أو يدفع بها في هذا الفراغ المدمر، وهي إلى الآن تعاني من تهجيرٍ قسريٍّ ومن سياسةٍ تدميرية، ليس لها من هدفٍ سوى تدمير ما بقي من بنيتها ومقدراتها، وتهجير من تبقى من شبابها وطاقاتها، ربما سيخلق هذا مسوغاً موضوعياً لنظام الأسد وداعميه، ليستورد عمالة إيرانية تسهم في إعادة التشكيل الديموغرافي، الذي يحقق له حلم سوريا المنسجمة.

من جهةٍ أخرى تسهم هذه الكفاءات والمهارات السورية المهاجرة، بقدرٍ كبيرٍ جداً في رفد من بقي من أهلهم وأقربائهم في الداخل السوري، بتحويلاتٍ ماليةٍ شهرية، تشكل عاملاً مهما في قدرتهم على الاستمرار، في بلدٍ منهارٍ اقتصادياً، ومعدل الدخول الشهرية فيه لا تكفي سبعة أيام، وإذا عدنا إلى تقارير البنك الدولي والأمم المتحدة، سنجد أنَّ عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة في سوريا، يتجاوز 13 مليون إنسان، وأن التحويلات المالية اليومية، التي تأتي من السوريين المهاجرين، عبر مكاتب التحويل تتجاوز خمسة ملايين دولار ونصف يومياً، أي ما يزيد على 18 مليار ليرة سورية يومياً.

في ظل الصمت الدولي المخزي، بل والمتواطئ مع نظامٍ لن يتوقف ليومٍ واحد، عن قتل مواطنين واستعباد من تبقى منهم، والدفع بهم عنوةً للتهجير قسراً، لن تجد الكفاءات السورية المتبقية، والأيدي الماهرة بداً من الهجرة من هذا الجحيم الذي لا قرار له، وهذا ينبئ عن غدٍ بائسٍ ينتظر السوريين، تحت حكم هذا النظام المجرم، الذي لا يعنيه من سوريا وشعبها إلّا استمراره في الحكم.