سلوى زكزك "البديري الحلاق".. هنا دمشق

2020.10.16 | 01:11 دمشق

1220416767.jpeg
+A
حجم الخط
-A

"جاؤوا بالأغنام إلى الشام. وقد كان أهل الشام في غلاء اللحم وأكل الذرة والشعير لهم سنوات، فبيع رطل اللحم في هذه السنة بسبعة مصاري، مع علم الناس أنه سَلْبٌ حرام، فمنهم من ترك أكله وهم أقل من القليل، والباقي وهم عموم الناس لم يبالوا. فإنا لله وإنا إليه راجعون".

هذا ما دونه "البديري الحلاق" في منتصف القرن الثامن عشر، وهو يصف أحوال الناس المادية وتعفف البعض عما يصفه بالمال الحرام وقبول العموم به لسوء أحوال عامة أهل الشام في تلك الفترة.

اليوم بعد أكثر من قرنين ونصف تكتب سيدة من دمشق حدثاً يتبدى من خلاله موقفها من شراء المال المسلوب (المُعَفّش): "ما رضي يبيعني المكنسة! سألتو من وين؟ قلي مو للبيع!.. قلتلو بس من شوي بعت متلها لفلانة، قلي هي البضاعة مالها لا أب ولا أم ومو من السوق أصلاً.. المعفّش والأصلي وابن العيلة وابن الحرام، كلن دابوا بالسوق.. والبياع ما باعني، فرحت انو ما باعني.. ارتحت من خنقة جديدة بحلقي... يبدو صرنا حاملين دمغة عجبينّا متل الدبيحة: معفّش ما نشتري".

كان البديري المتصوّف "شهاب الدين أحمد بن بُدير" حلاقاً يعمل من محلّه قرب قصر أسعد باشا العظم حاكم دمشق في تلك الفترة. وكانت حكايات وحوادث دمشق تأتيه إلى مكان عمله مع زبائنه فيدوّنها ليس بقصد التأريخ ولا النشر فقد اكتُشف مخطوطه المدون بين عامي1741و 1762 مصادفة بعد قرن ونصف.

سلوى زكزك الناشطة والكاتبة السورية اختطت طريقتها بطريقة إبداعية قصدية وواعية لتوصل رسائل دمشق اليومية. هي تجمع حكايات دمشق من الناس المهروسين تحت وطأة ظروف لم تعرف دمشق مثل شدّتها في عصرها الحديث، تلتقطها من أمام الدكان والمستشفى ومحل البالة وسوق الخضار ومن داخل الميكروباص وترميها في وجوهنا دون أي تذويق. ستنشر زكزك عام 2020 مجموعتها القصصية "يوم لبست وجه خالتي الغريبة" التي لاقت صدىً طيباً، وهنا لن أتطرق لها، فهي عمل مشغول بطريقة أدبية رغم اعتمادها قصصاً واقعية، وسأقتصر على تناول تدويناتها اليومية على وسائل التواصل فقط، بعيداً عما يقتضيه العمل الأدبي من اشتغال، ليس مكانه في هذه المادة.

سلوى زكزك الناشطة والكاتبة السورية اختطت طريقتها بطريقة إبداعية قصدية وواعية لتوصل رسائل دمشق اليومية

تكتب سلوى: "اليوم سوق الخضرة جهنم وشاعلة.. الكوسا ب٥٠٠ الخيار ب٦٥٠. الفليفلة الحمرا للمكدوس ب٦٠٠.. الرمان بألف العنب بألف وفي عنب ب١٢٠٠. التفاح من الألف ل١٤٠٠ .بيقلك الفاكية عم ينزل سعرها بأرضها.. بتدبل.. والخضرا بتخيس وزن وبتهتري بأرضها. النسوان دغري بيسألوا عالبايت وعالدبلان.. بلكي بيلاقوا شي يشتروه. عبث .. موسم الحرايق.. الحاضر يعلم الغايب.. نار وقايدة.".. "ربطة الخبز الحر ب٥٠٠.. يعني المقصود لقمة الناس الفقيرة.. المطلوب إفقار من بقي فيه رمق.. ومطلوب تجويع الفقراء.. جوع حتى التخمة".

ومثلها، لكن قبل دهرٍ بعيد، كان البديري يدون أحوال الناس المعيشية ويصف شحّ المواد في بعض السنوات أو توافرها وغلاءها في سنوات أخرى: "مع كثرة الفاكهة رطل التين الطري بأربعة مصاري، والكوسا كل ثلاثة بمصرية، والباذنجان الرطل بثمانية مصاري، وكل يقطينة بأربعة مصاري، ورطل اللحم بنصف قرش.. وقد دام هذا الأمر سبع أو ثمان سنين، لكن في هذا العام قد زاد الحد، والحكام لم يفتشوا على الرعية، وهذا مع قلة البيع والشراء والكساد وكثرة الديون على العباد، وظلم بعضهم البعض".

ليس هناك في كتاب البديري ما يدل على دوافعه للكتابة وتسجيل حوادث دمشق من وفيات وتعيينات للولاة والقضاة وحرائق وزلازل وفتن داخل المدينة بين الطوائف أو الجند، وكأنه كان يكتب لنفسه. في حين أن النشر المباشر التي تتيحه وسائل اليوم لسلوى، وغيرها كثير من المدونين السوريين، له رسالة واضحة وهي نقل واقع فاق في قسوته كلّ حدّ، لإطلاع جمهورٍ مُستهدف بذاته. سلوى زكزك المعروفة في الوسط الثقافي السوري من قبل الثورة ارتأت واستحسنت لنفسها هذا الدور، وقد نجحت في خيارها لتنقل نبضات يومية خفيفة لكنها بالغة القسوة، وسريعاً لفتت كتاباتها البسيطة والذكية الأنظار وأصبح السوريون، وخصوصاً من هم خارج سوريا، يتفاعلون معها ويتناقلونها، بل وتتسابق المواقع أحياناً لنشرها.

هي لم تلجأ للخيال الأدبي وحتى لم تبحث عن القصص لتكتبها وإنما واجهتها في كل تفاصيل ومفردات الناس في الشارع، حيث تمارس حياتها اليومية، وتعيش في مدينة يجمع معظم العالم أنها مدينة غير قابلة للعيش فيها. وبعيداً عن هذا العالم وعن التقارير الاقتصادية المحشوة بالأرقام، تقدم زكزك للقارئ مشاهداتها اليومية لتبني من تضاعيفها عالماً ثريّاً من الخلاصات التي تنزرع في ذهن قارئها ليحيط بواقع مدينة دمشق وسوريا عموماً بأفضل مما قدمته معظم تلك التقارير.

تتشابه قسوة الظروف في بعض السنوات التي دوّنها البديري الحلاق مع ظروف الناس التي تدونها زكزك اليوم لحدّ التطابق أحياناً. يكتب البديري في القرن الثامن عشر: "قتل رجل ابنته في محلة سوق ساروجا، وهي ابنة أربع سنين، تلك البنت أمها مطلقة وخالتها امرأة أبيها غير محبة لها، فدست لأبيها عليها بعض الكلام... فضربها بالعصا ضرباً مؤلماً، ثم ربطها بشجرة داره وبقيت طول الليل مربوطة إلى الصباح، فجاء ليحلّها فوجدها قد ماتت، وكانت ليلة ذات برد شديد". سريعاً تتجاوب دمشق القرن الواحد والعشرين مع حكاية البديري عبر ما ترويه زكزك: "بيضلّ يضرب بنته وبيحبسها بالحمام وبيشلحها تيابها مشان يعلم النربيج عجلدها.. كلّو لانو زوجتو تركتو وهربت..".

يرى المطلعون على المخطوط الأصل للبديري أن محققه الأول الشيخ محمد سعيد القاسمي قد أزال منه الكثير ممالأة للسلطات رغم مرور الزمن، بمعنى أنه قام على نحوِ ما، بدور الرقيب كي لا يزعج السلطات بما كتبه البديري الذي لم يحسب  حساباً لا لسلطة ولا حتى لقارئ. فيما بعد سيعيد أحمد عزت عبد الكريم تحقيق مخطوط "حوادث دمشق اليومية" ونشره عام 1959 معتمداً أكثر على النسخة الأصلية للحلاق.

يصوّر البديري مراراً مظالم الحكام وفسادهم، ويورد كثيرا عنها ويعلّق برأيه عليها أحياناً مستهجناً: "وهذا شيء ما أدركناه في جيلنا ولا حُكي في الشام من قبلنا". سيكتب عن (هلاك) مصطفى آغا القباني كيخية الإنكشارية، وكان من الذين يدخرون القوت ويتمنّون الغلاء لخلق الله "وجدوا في تركته من السمسم مئة غرارة، على أن في البلد كلها لم يوجد مدّ سمسم، ووجدوا من القمح شيئاً كثيرا، وقد طُلب منه أن يبيع غرارة القمح بخمسة وأربعين قرشاً فلم يقبل، وحلف لا يبيعها إلاّ بخمسين، فهلك ولم يبع شيئاً، فبيعت في تركته، ورحم الله عباده بموته لأنه أرحم الراحمين".

اليوم تكتب "بديري" دمشق القرن الوحد والعشرين وتنشر كتاباتها فوراً، دون انتظار أن يجدها أحد ما بعد قرون. تكتب من بطن الغول حيث القول والرأي والكتابة تصنّف في أعلى مراتب الجريمة، والحديث عن المجرم والفاسد الأصل هو انتحار موصوف، ومع ذلك ومع بعض المواربة في الولوج إلى مواضيعها، تستطيع زكزك إيصال رسائلها بكل قوّتها، ليرى من يتابعها الصورة متكاملةً. ستبدو نصوصها كما لو أنها صورة شعاعية لسوريا. خارجياً سيظهر منها أنها تتحدث عن أشياء بسيطة ولكن مؤلمة، ولكن في عمق الصورة ستتبدى بنصاعةِ عظام الحكاية الأصل بكل مرارتها.

"للمرة الثالثة يُقرع باب بيتي.. امرأة وطفلة: بدنا ناكل.. الظاهرة تتكرر في بيوت كثيرة وأبنية كثيرة. للمرة المائة وربما أكثر سيدة في الصيدلية تطلب دواء بالدَيْن لولديها المصابين بالتجفاف وتقول للصيدلاني: الصغير خشّب لأنه نحيل وضعيف البنية.

للجوع رائحة واخزة تملأ السماء.. للفقر مخالب تخرمش القلوب.. للقهر أنياب تلتهم الكرامة.. حصل هذا اليوم.. يحصل هذا كلّ يوم.. هذا غيض من فيض.. هنا دمشق".