سلطويّة الرأي العام

2021.04.14 | 06:33 دمشق

bsmt-qdmany-sfht-hyyt-altfawd-alswryt-almardt-alrsmyt-balfysbwk.jpg
+A
حجم الخط
-A

صوّت مجلس الشيوخ الفرنسي مؤخراً على حظر ارتداء الحجاب لمن هم دون سن الثامنة عشرة ضمن ما سمّاه مشروعاً لتشريع مبادئ الجمهورية، وبموجبه سوف تعمل السلطات الفرنسية على فرض قانون يمنع مخالفة أي مبدأ من المبادئ العلمانية في الدولة، وفي هذا السياق هددت بمنع تجديد تراخيص الإقامة للمخالفين ووصل الأمر إلى اتخاذ القرار بترحيل عدد كبير منهم.

تعتمد أغلب الدول الأوروبية نهجاً علمانياً في إدارة شؤون حياتها السياسية والإدارية، وهذا مطلب لشعوبنا الثائرة التي قررت الخروج من عباءة الدولة الأمنية أو الدينية.

حدث ذلك بالتزامن مع انفجار أزمة خاصة بارتداء السيدة "قضماني" الحجاب في أثناء إلقاء محاضرة في مدينة الباب، ما جعلها تتلقى سيلاً من الانتقادات والهجوم بسبب التصرف الذي عده كثيرون لا يتناسب مع المطالب المدنية التي يبتغونها، أو اعتراف من سيدة تعمل في الشأن العام بمجاملة الدولة الدينية أو مغازلة التطرف الحاكم في تلك المناطق.

شكلت الأحداث المتلاحقة التي تلتها حادثة نزع الحجاب لإحدى الإعلاميات المعروفات حدثاً كان محور النقاش في الأسبوع الأخير، حدث ذلك بطريقة فجة تتنافى مع الهدف الذي خرجنا من أجله في الحصول على أكبر هامش من الحرية الفردية، لا أن نجلب لأنفسنا قواعد استبدادية بصيغة مدنية متحضرة.

على اختلاف المبررات التي يسوقها المتشددون العلمانيون، إلا أنها لا تقل خطورة عما يرمي إليه المتشددون الدينيون،  إسلاميين كانوا أم مسيحيين

يبرر مناهضو فكرة "حرية وضع الحجاب" ذلك بأن ذلك يؤثر على نسيج المجتمع ويعمل على تغيير بطيء للتراث والمجتمع، أو قد يميل أصحاب التوجه الواحد إلى تشكيل "كنتونات" خاصة قد تؤدي في حال تناميها وتضخمها إلى تمزيق وحدة المجتمع، وفي هذا مغالاة ومبالغة لا تقل خطورة عن مثيلاتها مما يطلقها المدافعون عن عسكرة الدولة أو عن إدارتها بالأساليب الدينية.

على اختلاف المبررات التي يسوقها المتشددون العلمانيون، إلا أنها لا تقل خطورة عما يرمي إليه المتشددون الدينيون، إسلاميين كانوا أم مسيحيين ـ ذلك أن التطرف في الاتجاه الآخر يعمل على تكوين مذهب استبدادي بصبغة غير دينية.

وعلى الرغم من أهمية الرأي العام في القضايا العامة والحساسة، غير أن أخذه بعين الاعتبار في مثل تلك الحالات يعد اختراقاً سافراً للخصوصية، ذلك أن ارتداء الحجاب من عدمه أو شكل اللباس هو حرية شخصية صرف خاص بصاحب العلاقة ولا يمكن أن يتحول إلى قضية رأي عام يدلي فيها كل شخص بدلوه فتصبح القضية مثار نقاش في الفضاء العام.

يبدو من خلال ما سبق أن المشاركة العامة في محاولة فرض وجهة نظر العام على الآراء الشخصية، أو تطويع الشخص العامل في الشأن العام ليصبح مناسباً للصورة النمطية التي شكلها الرأي العام الجمعي، تثبت أننا نواجه شرطة اجتماعية تحاول فرض قواعدها على الشخصيات العامة والخاصة.

ما يمكن أن يلفت النظر هنا في قضية الحجاب أن الرافضين يمنحون أنفسهم التدخل في شكل لباس وحياة المرأة، حتى ولو ادّعوا المدنية واحترامهم حرية الرأي، وهم في ذلك لا يختلفون بذلك عمن يجبر النساء على ارتداء لباس معين انطلاقاً من وجهة النظر الدينية الخاصة فيه، ذلك أننا إذا كنا نعمل على رفض فرض ارتداء الحجاب فكيف ندافع عن قبول فرض عدم ارتداء الحجاب.

يمكن القياس في ذلك على الدول أيضاً، ذلك أن الاستبداد له أوجه متعددة ومن غير الممكن أن ينحصر في النطاق الديني أو العسكري، فالتطرف في إرساء قواعد معينة يؤدي إلى تطرف مساوٍ له بالشدة ومعاكس في الاتجاه، وهي نظرية مثبتة في أغلب التجارب الديمقراطية، ففي حال كان النظام دينياً لا بد من ظهور فئة تطالب بإحلال الدولة المدنية والعكس صحيح.

إن المقياس في تلك التجارب لا بد أن يكون الاعتدال، فمسألة فرض ثقافة بعينها على مجموعة مختلفة مع تلك الثقافة في المعتقد لا يمكن أن ينتظر منه ظهور نتائج حميدة.

فمن باب أولى أن من ينادي بمبادئ الحرية والمساواة عليه أن يتحلى بالإيمان بحقوق الآخر بتطبيق مبادئ تلك الحرية على نفسه، وإلا سيكون ذلك مدخلاً إلى حلقة استبدادية جديدة لا تختلف عما سبقها.

تبدو الحالة المسيطرة بشكل عام أقرب ما يكون إلى المغالاة والتطرف ورفض الآخر ومحاولة فرض قالب نمطي ينبغي على الجميع الانصياع إلى قواعده، تمارسها الفئات بعضها ضد البعض الآخر، وفي هذا لا تنمّ العقلية المسيطرة إلا على حالة استبداد وإباحة لحالة من التنمر والتنظير ومحاولة قولبة المجتمع والأفراد ضمن قالب معد سلفاً، والأمر ينطبق على كلا الفئتين اللتين تدافع كل واحدة منها عن معتقدها المتحرر أو المتدين. 

تستخدم السلطة الرأي العام في الأحوال العادية وتقوم بتعبئته وتوجيهيه تجاه القضايا التي تشكل إشكاليات وفقاً للأيديولوجيا التي تنتهجها وبما يتناسب مع أهدافها القريبة أو البعيدة، وتصبح السلطة أحياناً مطية لتحقيق أجندات شخصية ويصبح الرأي العام مفرغاً إلا من أهداف السلطة بمفهومها العام وسياساتها.

الفضاء الرقمي لم يعد افتراضياً في معناه المطلق، بل أصبح يطبق الخناق على الحريات الشخصية بشكل مبالغ فيه

من الواضح أن الرأي العام السوري ما زال بعيداً عن تشكيل قوة خاصة فيه وأهداف حقيقية، وما زال يُساق بطريقة الانحياز لهذه الفئة أو تلك بناء على ولاءات غير عقلانية ومرجعيات مختلفة، غير أن ذلك غالباً ما يجعل كثيرا من الأشخاص عرضة ليكونوا بمثابة كبش فداء في مواجهة قوة السلطة وقوة الرأي العام المتسلط في آن واحد.

علاوة على أن الفضاء الرقمي لم يعد افتراضياً في معناه المطلق، بل أصبح يطبق الخناق على الحريات الشخصية بشكل مبالغ فيه، بحيث تصبح أي قضية شخصية أو حادثة فردية عرضة ومدعاة للتدخل السافر، إذ بات من الواضح وجود هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ للتيارين المتشدد والمتحرر على حد سواءـ تعتمد تعريفها الوضعي الخاص للمصطلحين، فتمنح صكوك غفران وشهادات حسن سلوك لمناصريها، ثم تقيم محاكمات ميدانية لكل من يختلف معها بخصوص قانونها.