سعيد عقل ومحمود درويش والأبنودي

2020.08.05 | 00:02 دمشق

hqdefault-4.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس من الضروري أن تكون آراء المبدعين الكبار صائبة أو متوازنة على الدوام، وكثيراً ما تنضحُ ذاتُ المبدع المتعالية، بل المتورمةُ في بعض الأحيان، بمثل هذه الآراء الاستعراضية، كقول سعيد عقل: إذا العرب أُعْطُوا "سعيد عقل" كل مائة سنة لعاشوا مليار سنة! يقول هذا مع أنه كان يتبرأ من العرب، ويهاجم لغتهم على نحو دائم، ويدعو إلى استخدام اللغة الفينيقية مكان العربية. وعلى كل حال العرب حالياً ما زالوا عائشين، وقد يعيشون مليار سنة، ولكن ليس بسبب وجود شاعر كبير يأتيهم كل مئة سنة، ولا لأي سبب آخر سوى أنهم عائشون بأعجوبة.

يسأل الصحفي "لامع الحر" سعيد عقل عن الشاعر محمود درويش فيقول: لم أعرفه، لم أعرف شعره، ولهذا لا أستطيع مدحه أو ذمه. وسبق له أن سئل عن المتنبي فقال: له أبيات!

لا يوجد، بالطبع، مَن يصدق أن سعيد عقل لم يعرف محمود درويش، هذا إذا لم يكن قد قرأ أشعاره كلها، وباهتمام، ولكن هذا التصريح ليس مستغرباً من شاعر يملؤه الغرور إلى حد أنه يروي، في إحدى مقابلاته المتأخرة، أن أحد محبي شعره قد زاره وصار يقرأ له أبياتاً من الشعر فتعجبه، ويسأله: لمن هذه؟ فيقول إنها لك، قلتَها قبل ثلاثين سنة.. فيسر لذلك ويقول: والله هذا شيء جميل!

إن سعيد عقل، مع ذلك، شاعر كبير، ويكفينا أن نستدل على ذلك بأي مقطع نختاره من قصائده، كقوله: الهوى لحظُ شآميةٍ رَقَّ حتى قُلْتَه نَفَدَا.. أو: الرياحْ تدوزنْ وْتَارَا.. أو:

من روابينا القَمَرْ- جاءه، أم لا، خَبَرْ..

جايَلَتْه رندلى- ودمى الحُسْنِ الأُخَرْ..

ولأن سعيد عقل شاعر كبير يتقبله الناس، ويتغاضون عن غروره حتى ولو على مضض.. ولكن على أي أساس سيقبلون زعمَ عبد الباري عطوان، بأن صدام حسين، صرح بأن الأمة العربية لا يمكن أن تموت طالما أن فيها عبد الباري عطوان!

بالمقابل، هناك مبدعون كبار مشاهير يَعرف الواحد منهم قيمة الآخر، حق المعرفة. قرأت، قبل أيام، أكثر من قصيدة للشاعر عبد القادر الحصني يمجد فيها الشاعر شوقي بغدادي، ومنها قوله:

صباحُ شـوقكَ، إنّي     إلـى صـبـاحـكَ أشــوَقْ

قد التـقيـكَ، وقـد لا      كما ترى: الموتُ أحمقْ

لـكــنّـمـا لـكـلـيــنــا         غـــداً إذا الـحـقُّ حــدَّقْ

ونـاولـتـْهُ دمشقُ الـ      ــمــرآةَ كـي يــتــحـقَّـقْ

وجـهـان: ظلّ تراباً     وجــهٌ... ووجـهٌ تـألّــقْ

محمود درويش، الشاعر العربي الفلسطيني الكبير، اكتسب في الستينيات شهرة واسعة، ولا سيما بعد خروجه من سجن دولة الاحتلال الصهيوني في أواخر الستينيات. في تلك الآونة كان يحضر مهرجاناً عالمياً للشعر في موسكو، والتقى هناك بمراسل صحيفة الأهرام المصرية "عبد الملك خليل"، وسأله: أنت تعرف الشاعر عبد الرحمن الأبنودي؟

قال: نعم، وهو صديقي.

سأله: عنده بيت؟

قال: طبعاً.

قال: إذا ذهبتُ إلى مصر لا أريد أن أنزل عند الحكومة، سأقيم في بيت عبد الرحمن الأبنودي!

لهذا الموضوع أهمية خاصة تتعلق باعتراف بعض الشعراء الكبار ببعضهم الآخر، على عكس ما كان يفعله سعيد عقل.. وله دلالة أخرى مهمة، وهي أن محمود درويش، منذ ذلك الوقت المبكر، كان يعترف بالقصيدة المحكية، ويصنفها مع الشعر، ولهذا وجد، حينها، أن شاعر المحكية المصرية "الأبنودي" شاعر كبير. ونقطة على السطر، لم يستدرك قائلاً (هذا، على الرغم من أنه يكتب بالعامية)..

والحقيقة أن للأبنودي بالعامية ملاحم، منها قصيدة العمة يامنة، وله أبيات في منتهى الجمال مما غنى عبد الحليم حافظ ومحمد رشدي، يكفي أن نأخذ منها هذا المثال من أغنية "تحت الشجر": 

الليل بينعِسْ ع البيوت وعلى الغيطانْ

والبدر يهمس للسنابل والعيدان

يا عيونك النايمين ومش سائلين

وعيون ولاد كل البلد صاحيين

تحت الشجر واقفه بتدعك بايديها برتقانة ولا ده قلبي

قلبي فَرَح، جوا الفرحْ، لما رأيتْ رمشِكْ سَرَحْ

قصة لقاء محمود درويش حينما جاء إلى مصر أول مرة مع الأبنودي يرويها الأبنودي بأسلوبه المميز، فيقول إنه في يوم من أواخر الستينيات، رن الهاتف في بيته، وجاءه صوت رجل لهجته غير مصرية. سأله (مين؟). قال أنا درويش. سأله: (درويش مين؟)، قال: محمود درويش. فقال الأبنودي: محمود درويش مين؟ أنا ما اعرفش حد اسمه محمود درويش غير الشاعر الفلسطيني. فقال له: هادا هوي، اللي إنته بتعرفه.

وتمر الأيام، ويموت محمود درويش (في مثل هذه الأيام، التاسع من شهر آب 2008) ويُعْلَنُ عن جائزة سنوية للشعر باسمه، وفي سنة 2014 يفوز عبد الرحمن الأبنودي بها، وتسأله مذيعة في التلفزيون المصري عن محمود درويش، بعد مقدمة تقول فيها إن الشاعرين العربيين الوحيدين اللذين تمتلئ المدرجات بالجمهور عندما يكون ثمة أمسية لأحدهما، فيجيب، بثقة الكبار وتواضعهم:

- شوفي يا ستي، أنا ومحمود درويش شاعرين كويسين مش عايزة كلام.. ويبدأ بالتحدث عن محمود درويش بكلام مهم جداً. يقول:

- محمود درويش عمل معجزة، لإنه انتقل من البساطة اللي في (أَحِنُّ إلى خبز أمي وقهوة أمي) وبتاع، إلى الحداثة المركبة، وحط الحداثة تحت ضرسه. الحداثة كانت مغرَّبَة في الشعر المصري والعربي عننا، ما تعرفيش تقري قصيدة. محمود درويش بنبله، وإنسانيته، وقضيته الكبيرة ذات الجرح المفتوح، ظل يطور في قصيدته، وأخذ الحداثة وعبر بها، وحولها لحداثة عربية عظيمة جداً.

ويروي، في المقابلة نفسها، حكايات أخرى عن صداقته الرائعة مع محمود درويش، أكثرها أهمية، بظني، هي أن محمود درويش طلب من الأبنودي أن يرافقه في الفرجة على مصر ومعالمها، قائلاً له:

- عايز أشوف مصر بعينيك!