سعد الحريري الذي خسرته

2018.11.03 | 19:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

من يرى مشهد جلوس الرئيس سعد الحريري بجوار الأمير محمد بن سلمان في مؤتمر اقتصادي دبّره الأخير (24 تشرين الأول المنصرم)، قد يشعر بالضيق والارتباك. صورة تسبب استفزازاً غامضاً للعين، أو حتى اضطراباً في المعدة. قد يشعر الرائي بالحيرة والانقباض، ولا يكنه للوهلة الأولى سبب نفوره مما رأى.

بالتأكيد، ثمة طابع مشؤوم للصورة، إيحاء مخيف لا تبدده السينوغرافيا البراقة. إيحاء بالتعاسة لا تبدده المناسبة المفعمة بمليارات البذخ والازدهار والبحبوحة الموعودة. إيحاء بالخجل لا يمحوه زهو الضيف ومضيفه. إيحاء بالكآبة العميقة لا تطفئها الابتسامات المتبادلة. إيحاء بالضعف لا تزيله علامات السلطة والمكانة. 

الذي رأى الحريري مجالساً ولي العهد السعودي قبل عامين أو أكثر لبدا له المشهد بديهياً وطبيعياً، وربما مملاً لشدة عاديته. فالحريري سعودي بقدر ما هو لبناني في الهوية والعيش والعمل والسياسة. هو ابن المملكة كما هو ابن الجمهورية، علاوة عن طابع الصداقة الشخصية والصلات الحميمة التي تجمعه بالعائلة المالكة. لذا لم تكن صوره ولا زياراته للسعودية ولا لقاءاته مع حكامها قبل العام 2017، لتثير أي اهتمام خاص أو استفهام أو دهشة. 

أرغمت السعودية سعد الحريري على الدوس على قلبه وإسكات ضميره وكتم مشاعره

كانت الصورة الوحيدة المثيرة لسعد الحريري، والتي لن تُنسى، هي تلك التي جمعته (قسراً وقهراً) مع الرئيس السوري بشار الأسد يوم 19 من كانون الأول 2009. حينها كان الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز قد أجبر رئيس الوزراء اللبناني على واحدة من أسوأ المبادرات السياسية: زيارة بشار الأسد ومصافحته ومعانقته. وقتها، أرغمت السعودية سعد الحريري على الدوس على قلبه وإسكات ضميره وكتم مشاعره. أرغمته على مجالسة قاتل أبيه ورفاقه، وتبادل الابتسامات وتناول الطعام معاً واصطناع الود.

من الصعب تخمين مقدار الألم الفظيع الذي كابده الحريري في تلك اللحظات، هناك في قصر أعتى مجرمي الشرق الأوسط. ألم الخضوع لمشيئة ملك الدولة الحليفة والمساندة (والممولة) وألم مصافحة اليد الملوثة بدماء والده ودماء أصدقائه.

أبدى سعد الحريري قدرة هائلة على التحمل وعلى كتم عواطفه إلى حد نستفظع فيه سطوة السياسة وقسوتها، وخلوها في هكذا لحظة من أي بعد أخلاقي أو من أي أثر للمشاعر الإنسانية. 

صحيح أن سعد الحريري، بعد تلك الزيارة إلى دمشق، دفع ثمناً سياسياً باهظاً تمثل عملياً بتدمير حركة 14 آذار، وخسر بعض الصدقية في طلب الحقيقة والعدالة بجريمة اغتيال أبيه، إذا ارتضى فصل الأداء السياسي عن مسار المحكمة الدولية.. لكن صورته مع بشار الأسد حفزت معظم الناظرين إليها على التعاطف والتفهم، غمرتهم مشاعر التضامن معه والأسى عليه. كانوا يدركون أن سعد الحريري يقمع نوازعه باسم "مصلحة وطنية" أو باسم "صون لبنان" من الشر. ورغم التململ والتذمر من مبادرة الحريري تجاه الأسد، بقيت تعبيرات التنديد في حدود الاعتراض السياسي ولم تصب الحريري بعار أخلاقي.

يمكن القول أن ظهور سعد الحريري في السياسة أصلاً كان بحافز عاطفي وأخلاقي ورداً على الغاية الدنيئة بجريمة اغتيال رفيق الحريري. شرعية وراثته لأبيه هي هذه المبايعة العاطفية والأخلاقية، وهذا الانحياز للضحية ضد المجرم. جاء سعد الحريري إلى السياسة باسم رفض الجريمة ورفض الإرهاب ورفض العنف. وارتبط خطابه السياسي بطلب الحق والسعي إلى الحقيقة وتحقيق العدالة.

على هذه الخلفية، نعود إلى صورته مع ولي العهد محمد بن سلمان في أواخر الشهر المنصرم. ما "المميز" فيها؟ لماذا تبدو شديدة الغرابة، بل ومثيرة للغثيان؟

في أثناء التقاط هذه الصورة، كان العالم يضج فعلاً بأخبار ووقائع جريمة وحشية، حدثت داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، وكانت وسائل الإعلام تبث بلا كلل تفاصيل مروعة تؤكد أن الأمير الشاب هو المشتبه الأول في تدبير جريمة الاغتيال.

وكان المجتمع الدولي ورؤساء الدول وكبار الزعماء والسياسيين يعبرون عن سخط بالغ وإدانة تامة للجريمة، بل ويعبرون عن غضبهم تجاه الدولة السعودية وأميرها المتنفذ. والأسوأ من كل هذا، أن وكالة صحافية مرموقة لا يشك أحد بمصداقيتها، "رويترز"، كانت تنشر في هذا الوقت تحديداً، تقريرا عن ولي العهد والحلقة المقربة منه، وما ارتكبته من أفعال قبل مقتل الصحافي جمال خاشقجي، وأسهبت بسرد تفاصيل خطف واحتجاز سعد الحريري في الرياض، مطلع تشرين الثاني 2017، وإهانته وإذلاله وتعرضه للضرب على يد رجال محمد بن سلمان نفسه، وإرغامه على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة. بل ويذهب البعض إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الذي أنقذ سعد الحريري من براثن بن سلمان ومن مصير أسوأ.

اختار سعد الحريري أن يلاقي محمد بن سلمان ويجلس معه، بكامل إرادته وبمطلق حريته

اختار سعد الحريري أن يلاقي محمد بن سلمان ويجلس معه، بكامل إرادته وبمطلق حريته. هذه المرة، لم يُرغم على مصافحة قاتل في دمشق، ولم يُستدع مكرهاً إلى الرياض. ذهب بملء إرادته، مدركاً أنه يجالس الذي أذله وأهانه قبل عام، وأنه يقف بجوار متهم بجريمة اغتيال سياسية، وأنه يتضامن مع سلطة تتوسل القتل والعنف ضد معارضيها.

إزاء صورة سعد الحريري ومحمد بن سلمان الأخيرة، ولكي نفهم شعورنا بالنفور والاستفزاز والمرارة، نستعين بما قاله أحد أبرز المثقفين اللبنانيين، أحمد بيضون: "في "جرائمِ دولةٍ" من طراز اغتيال الحريري وأصحابِهِ أو قَتْلِ الخاشقجي، لا يَسْقُطُ الحقُّ في العدالة أبداً. ولكنْ قد يَسْقُطُ حامِلو هذا الحقّ أو مُدَّعُو حَمْلِه. 

في الموقفِ من قَتْلِ الخاشقجي، يعامِلُ الحريريٌون الجريمةَ كما سَبَقَ أن عامَلَ خصومُهُم حالةَ الحريري وأصحابِهِ حَرْفيّاً، أيْ بالمشارَكةِ المعنويّةِ في الجريمة. فيَبْدُونَ وكأنّهم يَسْعون بأيديهِم وأرجلِهم، وبأبواقِهِم أيضاً، إلى إسقاط حقّهم. ولكنّهم هم الذين يسقطون، في الواقع... وكأنّ السقوط هو ما يناسبهم".

ثمة مشهد آخر يؤكد هذا السقوط. مشهد يماثل بقسوته اللقاء "الاضطراري" بين بشار الأسد وسعد الحريري. نتحدث هنا عن صورة صلاح خاشقجي في لحظة مصافحته للأمير محمد بن سلمان. قد تكون الصورة الأكثر إرعابا بين ملايين الصور التي ينتجها العالم، الصورة التي تجسد فداحة فجور السلطة العربية في تعاملها مع مواطنيها. صورة تختصر كل التنكيل الذي يلحق بالشعوب العربية، وفيها حلّ صلاح خاشقي رمزياً محل سعد الحريري، الذي ذهب طوعاً إلى ممالأة القتلة. 

بهذا المعنى، يمكن تأريخ 24 تشرين الأول، تاريخ صورة سلمان – الحريري، أنه يوم غادر سعد الحريري موقعه القديم، موقع طلب الحق. خسر تلك المبايعة الأخلاقية التي أتت به إلى السياسة. ربما "واقعيته" السياسية أطاحت بأوهامنا، وأسقطت نازعنا إلى المثالية. مع ذلك، يمكنني القول بدافع شخصي وبمشاعر ذاتية، أن سعد الحريري غدر بنا.