سرديات حول تأميم الأطفال السوريين في أوروبا

2022.02.19 | 05:29 دمشق

2030229075.jpeg
+A
حجم الخط
-A

مشهد أول

أول وصول الطفل "توفيق" إلى هولندا زودته إدارة المخيم بأرقام طوارئ يمكن أن يطلب مساعدتها في حال تعرض لأي اعتداء، وبما أن الجميع هنا "مؤمَّمٌ للدولة وقيمها وقوانينها" فإن المقصود بـ "أي اعتداء" ها هنا لا تستثني تلك الصفعات (ربما الشحاطات كذلك) التي كان يتلقاها "توفيق" من الأهل!

الأهل ظنوا أنهم مستثنون من الشكوى، فيما أخذ، أولاً بأول، "توفيق" يتغلغل في الثقافة الأوروبية، ويجد أن من حقه كفرد أن يشتكي حتى على ذويه، إنْ تعرض لعنف منهم، في ظل ثقافة جديدة تقول: لديك أهلٌ جدد، لا يضربونك! يكفي أن تلتزم بالقيود، والقوانين ليحبوك، لهم اسم واحد: البلدية!

يدور أهله في فلك ثقافتهم السابقة، وتبدأ سرديات من هنا وهناك يتداولها المجتمع اللاجئ حول تبادل الضرب بـ "الشحاحيط" بين توفيق وأهله، الذي صار بنظرهم وقحاً، وقليل أدب، وبلا أخلاق، وصار الأهل بنظر توفيق لا يطاقون، لأنهم عنيفون، فلماذا يعيش معهم بعد اليوم؟

سكنُ الأطفال المعنفين كان محطة توفيق الأخيرة، فيما يمضي أهلُه معظم وقتهم بكاء، وندماً على اللجوء!

مشهد 2

سافر "رأفت وسينا" من هولندا إلى ألمانيا، بهدف حضور مناسبة اجتماعية لصديقهما "ناجي"، الطفلة "لينا" ذات الـ 15 عاماً، لديها موعد مع طبيب الأسنان، سألها الطبيب: لماذا لم يأتِ أهلك معك؟ أجابته: سافروا إلى ألمانيا، وأنا سأهتم بإخوتي!

لم تخبر "لينا" الطبيب أن جارتهم السورية، ستحضر لهم طعام الغداء وستنام عندهم، كنوع من محاولة إظهار أنها صارت كبيرة ومسؤولة عن أختها وأخيها!

حين وصل "رأفت وسينا" إلى ألمانيا، وقبل أن يفتحا الحقائب، جاءهم اتصال من هولندا، وإذ به من الشرطة الهولندية، التي أخذت تسألهم عن رحلتهم ومسارها، وكيف تركوا الأطفال دون أن يرعاهم شخص بالغ، ومتى سيعودون!

 في اليوم التالي عادا، جاءت الشرطة مباشرة، حيث تبيَّن للأهل أن طبيب الأسنان أخبر الشرطة بالحكاية، ظناً منه أن الأهل ذهبوا ولن يعودوا، أو ربما سيسافرون إلى سوريا ويتركون أطفالهم!

مشهد 3

وجدت مديرة المدرسة "أنجيلا" أن الطفلين اللاجئين "سارة وتيم" لا يُحضران طعاماً يكفيهما، وأن لباسهما لا يليق، فسألتهما في جلسة خاصة عن كيفية توزيع أهلهم للمصروف الشهري، الذي تقدمه هولندا للأطفال، وهو نحو 4 يورو يومياً لكل طفل، ولماذا لا يحضرون طعاماً يكفيهم، ولماذا لا يشترون لباساً يليق بهم! أكد الطفلان للمديرة أنهما أول مرة يسمعان بهذا المصطلح "مصروف الأطفال من الحكومة".

قاد سؤالهما، حين عادا إلى البيت، إلى مشكلة كبيرة في البيت، حيث أخذ الأب والأم يكيل كل منهما الاتهامات للآخر، وأن سبب تقصيرهما تجاه أطفالهما يعود إلى أنهما يقدمان مساعدة دورية للأهل، وأن الهولنديين لا يفهمون ضرورة ذلك! بل اتهما ابنيهما أنهما يقومان بسلوك يشبه سلوك المخبرين، وهو لا يليق بهما، ويسيء لسمعة العائلة، وأن المصروف وتفاصيله يجب أن يبقيا طي الكتمان.

مشهد 4

يشتم اللاجئ "محمد نور" الحكومة الهولندية ليل نهار لأنها لم توافق على طلبه بالزواج من "سحر" ذات الـ17 عاماً، ويحلف بالله أن أمه حين كانت في هذا العمر، كان لديها ولدان ومسؤولة عن بيت، يحاول عبثاً الشخص المسؤول أن يشرح له "مفهوم الطفولة" وفقاً للقانون الهولندي، وأن تسجيل الزواج له شروط يجب استيفاؤها، محمد نور يحكي لزملائه الجدد في مدرسة تعلم اللغة الهولندية أن هناك الكثير من العنصرية تنتظرهم في هذه البلاد، التي تسعى لتخريب قيمنا، فاحذروا منهم!

مشهد 5

حين اتصلت شقيقة "سلمى" بها، بعد منتصف الليل، لتخبرها بموت أبيها في مدينة البوكمال بسوريا، أخذت سلمى تبكي وتنوح، وفقاً لعادات مدينتها إبان موت قريب. استيقظ الأطفال، وأخذوا يبكون مشاركة لأمهم حزنها على وفاة جدهم، وجود الواتس أب جعلهم يتابعون التفاصيل هناك، فيتولد النحيب كل لحظة... في الصباح كانت الشرطة تدق الباب وتسأل عن الأب/الزوج "فريد" الذي كان يضرب زوجته وأطفاله ليلاً! احتاج "فريد" إلى أن يأخذ وضع المتهم، وزوجته وأطفاله وضع الشاهد على أنه أب/زوج لا يضرب! واستعان فريد باليوتيوب لإقناع الجيران والشرطة بمراسم الحزن الفراتي وتفاصيله، وأناشيد الموت وتفاصيله، وتابع الجيران معه دفن الجنازة، مستغربين طقوسها.

لم يتحدث أحد عن الصورة النمطية للرجل الشرقي عند الأوروبي، أو جهل المجتمع الجديد بالقادمين الجدد، ختموا المشهد بفنجان قهوة اعتذار الجيران من العائلة الجديدة!

مشهد 6

تلقت الشرطة الهولندية اتصالاً من إحدى العاملات في محطات الوقود على طريق خارجي، مخبرة إياهم بأن طفلاً دق بابها، ولا يعرف الحديث بالهولندية أو الإنكليزية، يردد كلمة واحدة "سوريا". بعد دقائق قليلة، حضرت الشرطة برفقة مترجم، تبين لهم أنه طفل سوري جديد، ممن يصلون إلى هولندا أسبوعياً ممن هم تحت الثامنة عشرة، ليستطيعوا أن يقوموا بلمّ شمل سريع للأهل جميعاً، حيث ترسلهم عوائلهم مع عائلة أخرى، عبر جواز سفر بديل أو سوى ذلك.

تسعى الحكومة الهولندية لإيقاف هذه الظاهرة عبر إصدار تشريع بعدم السماح لهؤلاء الأطفال بلمّ شمل الأهل، قائلة: إن من يعرض طفله لمثل هذا الخطر والإجهاد النفسي وآثار الغياب، لا يستحق أن يعيش مع الطفل لاحقاً! غير أن دائرة الهجرة لا تتفق مع الوزارة، وتعدّ لم الشمل حقاً من حقوق الطفل، تلك صورة نمطية جديدة سلبية للسوريين، لا يستوعب الهولنديون أسباب إرسال الأهل لطفلهم الصغير وتعريضه للخطر، بل إن الحكومة لم توافق على استضافة 1500 طفل سوري من الجزر اليونانية لقناعتها أن هؤلاء سيلمون شمل أهلهم مما سيسبب لها ضغوطاً جديدة، لا تعد نفسها مسؤولة عن حرب في جغرافيا أخرى ليست مسؤولة عنها!

مشهد 7

في مقارنة بين سلوك الطفل "وديع" ذي الجذور السورية، والطفل "ماكس" الهولندي، تبيَّن لأم ماكس وأم وديع إبان شرب القهوة، أن "وديعاً" لا يلتزم بتعليمات أهله، ويتأخر بالسهر مما يؤثر في تركيزه على دراسته في اليوم التالي، وأن "الشحاطة" التي استعملها أبوه أول وصولهما، غدت مصدر إذعان للأهل!

تابعت الجارتان شرب القهوة، وكان محور الحديث حدود الممنوع والمسموح، في ظل تغير الأدوار، حيث تعلم الأطفال اللاجئون اللغة الهولندية سريعاً، وتعرفوا إلى الكثير من تفاصيل الحياة وباتوا يوظفونها أحياناً لابتزاز الأهل أو ممارسة شقاواتهم!

خاتمة:

يتساءل الأهل: لماذا يُسمح للدولة أن تؤمم الطفل، ولا يسمح للأهل؟ فتجيب الدولة الهولندية: الأمر مردّه إلى نوع التأميم، هل هو تأميم استيلائي، دون تعويض؟ أم تأميم بهدف الحماية من الانهيار والعنف؟  فتغييب العنف عن المجتمع، مسؤولية الجميع ومؤسسات الدولة أولهم، لأن من يعنَّف سيعنِّف، ولا بد من إيقاف الظلم والعقاب العنيف، وتقديم المساعدة لمن يتعرض له.

دافعُ كثير من الأهل في نوبات غضبهم وعقوباتهم تجاه أطفالهم، هو الشعور بالمسؤولية، والالتزام تجاه أطفالهم، والخوف عليهم من الضياع، وشعورهم بعدم الأمان.

من العوامل المؤثرة في رحلة اللجوء من مجتمع إلى مجتمع آخر، اختلاف طرق التربية، وحدود العقاب، وعدم الوعي باختلاف المفاهيم، فالأهل ليسوا بمجرمين، هم ضحايا عدم القدرة على التكيف، وعدم المعرفة، وهم القادمون من مجتمعات تحسب أن العائلة أهم نواة اجتماعية، وهي مرجع الأفراد، ولا يدرك معظمهم فلسفة الفردانية في المجتمع الأوروبي.

للسوريين أوجاع خاصة مع التأميم، الحكوميّ منه خاصة، لأنه ارتبط بعدم العدالة وتسلط الدولة، وليس كما مفهوم الـتأميم المعاصر، حيث تشتري الدولة جزءاً من الشركات الكبرى، التي توشك على الانهيار، كما حدث مع شركة الطيران الإيطالية، أو لحماية البلد كما حدث في أميركا مع شركات حماية المطارات وأمنها.

وللسوريين كذلك ذكريات مؤلمة مع التأميم الإداري حيث يعتقد كثير من المدراء ورؤساء المنظمات في مؤسسات النظام (وربما المعارضة كذلك) أن من حقهم تأميم موظفيهم، (موظفاتهم خاصة)، وهم متناسون أن الأفراد العاملين ليسوا مؤممين، وليسوا جزءاً من الملكية!

تؤمم السوشال ميديا الكثير من لحظات حياتنا، وهناك أصدقاء كذلك يؤممون أصدقاءهم، ويعتقدون أنهم لهم وحدهم، أما على مستوى الزوجات والأزواج فالحديث يطول!

ساردٌ معاصر أرسل إلى صبية أحبَّها سنوات: ليتَ قلبَك يؤمّمني إلى الأبد، على طريقة الأنظمة المستبدة! فردت عليه: كيف سأحبك وأنت تتغزل بي عنفاً؟