سجون الأسد.. متن الموت وهامش الحياة

2018.05.04 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"شووو؟ عطشان؟ بدَّك مَي بعد نص الليل؟ ولَك واللـه واللـه. إن فتحتلك الباب هلَّق لشرّْبك من......أمَّك، يا ابن......... نام ولا جحش، نام أحسن ما إجيك ها." هكذا رد السجّان عندما طرقت باب الزنزانة طالباً الماء. بسبب شدة العطش امتلكتُ الشجاعة لفعلتي تلك (الشدّة في هذا الموضع مختلفة كليّاً عن المفردة التي نعرفها في حياتنا العادية) بعد ترددٍ لا أعلم الآن، كم دام من الوقت. حدث ذلك بعد يوم يمكن وصفه بأنه كان دامٍ من شدة التعذيب. نعم شجاعتي المؤقتة والاضطرارية تلك دفعتني لطرق الباب، وفعلتها.

الكثير من المواقف التي مرَّت بي، وتقريباً صادفت جميع الأصدقاء والزملاء، كانت تؤكد لنا أن للسجان السوري، في أي مقرٍ أمنيٍ كان، البنية ذاتها. يمكن القول دون الخوف من المبالغة، أنهم يشكّلون حالة قابلة للدرس. للأسف لا أملك المؤهل والمعرفة العلمية للقيام بها، ولكنها حقاً ضرورية.

المحقق يتحول مع الأيام إلى مريض نفسي معقد، يستعذب عذابات الآخرين

بعد تلك الليلة، سأقرأ بين فترة وأخرى، وكلما وقع بحث بين يدي، شذرات عن بنية السجان النفسية، وانعكاس مهنته على تلك البنية، وعلى سلوكه اليومي وحياته بصورة عامة. يقول طبيب نفسي ومحقق مخابرات سابق: "المحقق يتحول مع الأيام إلى مريض نفسي معقد، يستعذب عذابات الآخرين. يضرب زوجته ويعذب أطفاله. ينعزل عن المحيط، وعن الحياة اليومية الاعتيادية للإنسان الطبيعي. وتصبح حياته الشخصية جحيماً خالصاً".

ويذكر محقق في جهاز مخابرات آخر، بأن طريقة عملهم تخلق ضغوطات ومظاهر إحباط. ثم مع الأيام تلازمهم حالات عصبية لا فكاك منها، كسماع أصوات الصراخ والألم، وحالات هوس وعُصاب أخرى. وحتى أن حالات الطلاق لديهم تكون بمعدلات أعلى بكثير من الآخرين.

يعترف أحد الجلادين المحترفين: "في كثير من الأحيان تنفِّس عن إحباطاتك وتُسقط حالتك النفسية على أقرب الناس إليك. ولا تعود تشارك عائلتك حياتها." وهناك من يذهب أبعد من ذلك ويدّعي بشيء من الكوميديا، بأن عقول أبناء المحققين سطحية بسبب كسر الأطباق عليها، وأن زوجاتهم لا يُلبينَ رغباتهم، لخوفهن من بشاعة ما سيرافق هذه الحالة من تعذيب كالربط إلى الكرسي لساعات، أو عدم النوم ليالٍ متتالية. وكذلك تصبح عقوبات الجلاد لأولاده شكل من أشكال التعذيب، كالشبْح بالتنكيس، وإدخال الرأس في دلو الماء. وينتهي بأن لا يفصل بين طريقة حياته اليومية وعمله كمحقق.

شخصياً، لم أستطع من خلال اطلاعي المتواضع، الاقتناع بأن تلك المواصفات السابقة يمكن أن تنطبق على السجان السوري، فتلك الأعراض يمكن أن تصيب إنسان ذا حساسية من نوع ما، والحساسية هي الشيء المؤكد الذي لم أستطع التقاطه في شخصية أي من السجانين الذين قابلتهم، وقد أقمت لفترات متفاوتة في أربع مراكز تحقيق واحتجاز تابعة للمخابرات السورية.

الجلاد في السجن السوري يمتلك قناعة راسخة بأنه يمارس التعذيب، والأذى بشكل عام، ضد شخص شرير وجدير بالكراهية

ما أستطيع قوله، اعتماداً على تجربتي الخاصة، ودون ادعاء أن ما سأقوله علميّ، إن الجلاد في السجن السوري يمتلك قناعة راسخة بأنه يمارس التعذيب، والأذى بشكل عام، ضد شخص شرير وجدير بالكراهية، ومن الصعب عليه تغيير أو كسر هذه القناعة، أو حتى زعزعة هذه الحقيقة التي يجب أن تكون مؤكدة دوماً في داخله، لأنه لو حدث وترجرجت قناعته تلك ولو قليلاً، وشعر بأن ضحيته لا تستحق الأذى الذي يوقعه عليها، فلن يسعه إلا أن يكره نفسه، بسبب ما قام به، وهذا أمر بالغ الصعوبة عليه. وإلا فما معنى التفاني في التعذيب الذي كان يمارسه الجلادون أينما صادفتهم؟

على أية حال أنا لم ألحظ كراهية الذات تلك في عيني أي جلاد، ويمكن ردّ السبب لاشتغالٍ ممنهجٍ، من قادة منظومة الاعتقال والتعذيب في سوريا، على السجانين ليستمروا في كراهية أولئك السجناء الخونة والأعداء، الذين يستحقون الموت، ومن باب الرحمة المبالغ بها، يتم إبقاؤهم على قيد الحياة. مع ذلك يصعب عليَّ التعميم، فربما كان هناك من الجلادين من يكره نفسه، ولم يتصادف لي أن قابلته.

عطشانٌ كنتُ، وأريد بعض الماء فقط. بإحساسٍ مُربِكٍ ومحرجٍ، أقسى وأشدّ لؤماً من إحساس صبي صغير يمدُّ يداً مفتوحة في الهواء، ليتناول مصروفه اليومي من زوج أمه الشحيح، هكذا طلبت الماء من السجان (لم أعد أعتدُّ بذاكرتي كثيراً، ومع ذلك أعتقد أنه كان يُدعى يحيى). من ناحيتي، كان عليَّ أن أكتفي بجوابه ذاك، وألا أفكر إطلاقاً بمحاولة تكرار الطلب، فبالإضافة إلى أن جسدي لم يكن بحالة صالحة لتلقي المزيد من التعذيب من أجل شربة ماء، فقد استطعت بيسرٍ إقناع نفسي أن لا بأس، فأنا لن أموت لو لم أشرب الماء حتى صباح اليوم التالي، لكني قد أموت لو تعرضت لنوبة تعذيب جديدة وأنا على ذلك الحال.

في سجون الأسد أنت لا تملك حياتك، وهي أساساً بدون أية قيمة لا بالنسبة للسجان فقط وإنما لعموم النظام

في سجون الأسد أنت لا تملك حياتك، وهي أساساً بدون أية قيمة لا بالنسبة للسجان فقط وإنما لعموم النظام، فلدى الجلاد المحقق دائماً ذاك الهامش من السماح. السماح بموت بعض السجناء تحت التعذيب. كان ذلك في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. أما اليوم، وفي نهايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين فقد انقلب هامش المناورة أثناء السجن والتعذيب، دون أن يرتبك السجان السوري (المؤتمت) أو يشعر بأي ضغط نفسيّ بسبب هذا الانقلاب. فلا بأس لديه أنّه بات هامش السماح في السنوات الأخيرة، هو بقاء بعض السجناء على قيد الحياة. في تلك الفسحة الواسعة لمتن الموت أثناء التحقيق أو السجن، تم قتل الناشط السلمي "رامي الهناوي" كما أُعلن قبل أيام، وقبله وخلال سنوات، قُتل آلاف الناشطين السلميين في سجون الأسد، سجونٌ تستحق بجدارة لقب "سجون القتل تحت التعذيب".