"ساعة زمن" تفجّر خوف مسيحيي لبنان

2023.03.29 | 05:58 دمشق

"ساعة زمن" تفجّر خوف مسيحيي لبنان
+A
حجم الخط
-A

الاستحقاقات والمواقف في لبنان، باتت تؤدي إلى انقسام إسلامي – مسيحي... وهذه ليست مصادفة.

آخر هذه الانقسامات كانت الجدل حول تأخير اعتماد التوقيت الشتوي إلى ذاك الصيفي خلال شهر رمضان، الذي أحدث شرخاً بين المسلمين والمسيحيين، ووصل إلى حدّ التراشق عبر وسائل الإعلام، التي انقسمت بدورها عامودياً بين مؤيّد لقرار الحكومة، وأخرى رافضة له.

هذا القرار اتخذه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بالاتفاق مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، خلال لقاء جمعهما، وفرضاه على اللبنانيين بشكل ارتجالي وبلا أيّ تمهيد وتحضير، فأحدث إرباكاً في المدارس والجامعات وفي مؤسسات القطاع الخاص.

صُوّر القرار على أنّه إملاء من رئيس السلطة التشريعية إلى رئيس السلطة التنفيذية، وفسّرته القيادات المسيحية، بمن فيهم البطريركية المارونية، بأنّه إملاء من المسلمين على المسيحيين، كما رآه أغلب اللبنانيين (بمن فيه بعض المسلمين) على أنّه تعدٍ على مبدأ فصل السلطات، لأهداف غير معروفة.

قيل إنّ القرار دوافعه "تخفيف الأعباء على الصائمين" خلال شهر رمضان، وعلى الرغم من أنّ المعترضين في البداية كانوا من الطرفين (مسلمين ومسيحيين) إلاّ أنّ سقف الخطاب العالي الذي تبنته القيادات المسيحية "طيّف" الموقف، ودفع بالمسلمين إلى التراجع خطوة إلى الخلف، والالتفاف وراء قياداتهم ولو نتيجة قرارٍ خاطىء ومتسرّع.

النبرة المسيحية لم تأتِ من فراغ، وإنّما لها مسببات ودوافع أعمق من مسألة "توقيت صيفي". هذه النبرة المستجدّة تتعلّق بجملة من المتغيرات الخارجية وأخرى من الأحداث الداخلية، دفعت بالقيادات المسيحية ووسائل إعلامها، إلى إظهار خطاب طائفي حمل في طياته، ما يشبه الريبة والحذر على مستقبل المسيحيين في لبنان، ولو نتيجة أمر لا يستأهل هذا الرفض والتوتر. أمّا هذه التطورات والمتغيرات، فتُختصر بالنقاط التالية:

  1. الاتفاق السعودي – الإيراني:

هذا الاتفاق خلط الأوراق الإقليمية، كما خلط الأوراق الداخلية في لبنان. دفع المسيحيين نحو إعادة النظر بخريطة الخصومات، خصوصاً بعد ما شاهدوه من تقارب وتبريد ساحات بين السُنّة والشيعة، دافعاً في المقابل نحو ما يشبه التقارب بين "خصوم الأمس"، وتحديداً بين "التيار الوطني الحرّ" والقوات اللبنانية، ولو أنّ هذا التقارب لم يُترجم حتى اللحظة بلقاء أو تفاهم علني.

هؤلاء كانوا حتى الماضي القريب، منقسمين إلى فريقين، وكل واحد منهم يصطف خلف دولة من الدولتين (إيران والسعودية)، لكنّهم وجدوا أنفسهم فجأة، وعلى حين غرة، أمّام ترتيب إقليمي جديد باتوا ملزمين بالتعامل معه كأمر الواقع لا مفر منه.. وهذا كان سبباً كافياً لإظهار ريبتهم منه بهذه الطريقة.

  1. الانفتاح العربي على نظام الأسد:

هذا الانفتاح بدأت مؤشراته تظهر إلى العلن بعد الاجتماع الذي بحث "تداعيات الزلزال في سوريا" في عمّان، وحضره دبلوماسيون من الولايات المتحدة والسعودية ومصر وفرنسا وألمانيا والأردن والنرويج وقطر وتركيا والإمارات والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى وفد من جامعة الدول العربية.

ثم استُتبع بمبادرات "فردية"، افتتحتها الإمارات بـ"استقبال الفاتحين" لبشار الأسد في أبو ظبي، ثم تبعتها السعودية بخطوة إعادة اعتماد البعثات القنصلية، وقيل إنّها لأغراض الحج والعمرة. لكنّ الإعلان عن القمة العربية في الرياض بدا مؤشراً إلى احتمال دعوة الأسد لحضور القمة، وهو ما أعاد إلى أذهان اللبنانيين والمسيحيين خصوصاً، اتفاق "سين – سين" (السعودية سوريا) بعد اتفاق الطائف، الذي كان على حسابهم لثلاثة عقود.

  1. الموقف الغربي "الرمادي" من الاستحقاق الرئاسي:

حتى اللحظة، ما زالت الإدارة الأميركية ترفض الخوض في لعبة الأسماء، وتقول إنّها مع أي رئيس يتبنى الإصلاحات الضرورية لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية. هذا الموقف يعتبره المسيحيون في صالح "حزب الله" ومرشحه سليمان فرنجية، طالما أنّ واشنطن لم تجاهر برفضها للأخير بشكل صريح، وخصوصاً أنّ هذا الموقف يأتي في أعقاب اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي وافق عليه ضمناً "حزب الله" ومن خلفه إيران.

ناهيك عن زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، التي حضرت إلى بيروت في الأيام الماضية، ولم تلتقِ بأي زعيم من الزعماء المسيحيين المعارضين لوصول فرنجية، وكانت تلك إشارة غير مريحة للمسيحيين.

أمّا فرنسا (الأم الحنون لمسيحيي لبنان) فهي الأخرى لم تفوّت فرصة إلاّ وحاولت من خلالها أن تعرض المقايضة بين موافقة النواب اللبنانيين على فرنجية مقابل تسمية رئيس حكومة (سُنّي)، يكون مقبولاً من المعارضين (يُقترض القاضي الدولي نواف سلام)... وهذا سيكون طبعاً على حساب "الإجماع" المسيحي.   

  1. الفراغ في رئاسة الجمهورية:

هذا المنصب هو أسمى منصب مسيحي (ماروني) في الدولة، ودخل الفراغ فيه شهره السادس، كما ينذر بقرب اتفاق المسلمين على اسم مرشح قد لا يقبلون به، خصوصاً إذا أظهرت السعودية ليونة في موقفها الرافض لفرنجية (أو لشخصية أخرى بخلافه). هذه الليونة قد تُترجم بدوره ليناً مفاجئاً في موقف النواب السُنّة المستقلين، المترددين بالموافقة على ترشيح فرنجية. عندها قد يرجح هؤلاء الكفّة، لصالح حصول فرنجية أو غيره على النصف زائد واحد (65 نائباً) في جلسة انتخاب الرئيس، وبالتالي ستؤدي إلى وصول مرشح يرفضه المسيحيون، إلى بعبدا بشكل مريح.

  1. تراجع أعداد المسيحيين في لبنان:

عند كل استحقاق مسيحي، يرتفع الهمس حول أعداد المسيحيين في لبنان، الذين يكفل لهم الدستور "المناصفة" في مراكز الدولة مع المسلمين، على الرغم من أنّ الإحصاءات تتحدث عن ارتفاع عدد المسلمين إلى ما فوق 60%... فيدخل البلد بنقاشات طائفية – عددية.

آخر ما أثير في هذا الصدد، دراسة حول أعداد المسيحيين، تطرّق لها الرئيس نجيب ميقاتي في مقابلة تلفزيونية قبل أسابيع، وكشف أنّ دراسة وصلت إلى رئاسة مجلس الوزراء وتفيد بأنّ أعداد المسيحيين المقيمين في لبنان تدنت إلى 19%.

لم يؤكد ميقاتي الدراسة ولم ينفها، لكنّ الحديث عنها في المقابل، أشعل جدلاً مستجداً حول الأعداد، وأعاد إحياء طروحات "الفدرلة" والتقسيم، من باب الردّ المسيحي على تذكيرهم المتواصل بهذا الواقع. مسألة الأعداد تؤرق الجانب المسيحي في لبنان، خصوصاً حينما تُقرن بأعداد المهاجرين المرتفعة منذ بداية الأزمة، والمماطلة في استجابة المجتمع الدولي لعودة اللاجئين السوريين، التي تدخل منذ سنوات في "دهاليز السياسة"، وتفضي إلى تأجيل هذا المطلب. فاللبنانيون، والمسيحيون خصوصاً، تجربة سابقة مع مسألة اللجوء الفلسطيني التي ينظرون إليها على أنّها تهديد عددي لوجودهم، وهذا بدوره يزيد في منسوب التوجّس من تطويقهم أكثر من هذا الباب.

كل هذه الدوافع، تجعل من أيّ مسألة بسيطة أو سخيفة في لبنان، مادة للتفاعل الطائفي، ثم تتطور لتهدّد بتقسيم المجتمع اللبناني "عامودياً" بين مسلم ومسيحي... لتكشف أنّ الخلاف ليس حول "ساعة زمن"، وإنّما على ومصير ومستقبل أقل أنّ يُجاهَر به بشكل واضح وصريح!