زلزال الشمال السوري ليس ككل الزلازل

2023.02.12 | 05:57 دمشق

زلزال الشمال السوري
+A
حجم الخط
-A

يقول العلماء إن الزلازل هي نتاج تناطح صفائح هائلة الحجم والمساحة في أعماق الأرض، ويقال إنها من أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً، وهي ظاهرة طبيعية تحدث منذ ملايين السنين، ولكنها تختلف من حيث القوة والشدة، ولأنه لا توجد طريقة للتنبؤ بالزلازل أو منعها، فمن المهم أن تكون الدولة مستعدة وأن يكون لديها خطة طوارئ في حال حدوث زلزال، فمن خلال فهم أهوال الزلازل، يمكننا العمل على تقليل تأثيرها ومساعدة المجتمعات على التعافي من هذا الحدث المدمر. ومن هنا تبدأ قصتنا نحن السوريين؛ فزلزالنا ليس ككل الزلازل.

عند الساعة الرابعة من صباح يوم الإثنين السادس من شباط 2023 فجأة ومن غير سابق إنذار صارت الأرض جموحا وكأنها تريد أن تلقي بكل من على ظهرها إلى الجحيم؛ فاهتزت واهتزت بعنف ولها هدير مرعب ضاعف جرعة الخوف، كانت ثوان قاربت الدقيقة كافية لزلزال "كهرمان مرعش" الذي امتد بآثاره المدمرة إلى الشمال السوري ليحصد أرواح آلاف السوريين ويحول ممتلكاتهم إلى ركام، ناشرا الذعر والهلع في نفوس الناجين ملقيا بهم إلى الطرقات والساحات حيث كان البرد القارس بانتظارهم في درجات حرارة تلامس الصفر، مخلفا كارثة إنسانية قل نظيرها. المشهد أوجزه أحد الناجين بعبارة مختصرة: كأنه يوم القيامة.

صرخات استغاثة موجهة لمؤسسة الدفاع المدني محدودة الإمكانيات، ولأصحاب النخوة من المواطنين في حالة تكرس اليتم في أقسى معانيه

ما إن استقرت الأرض تحت أرجلهم هرع السوريون إلى هواتفهم يتنقلون بين صفحات الأخبار ورسائل الاطمئنان على ذويهم ومعارفهم. ومن بين الأخبار كانت تطالعهم تصريحات للرئيس التركي، وتصريحات لمعاونه، وتصريحات لمسؤولين حكوميين آخرين، وحكومة مع الساعات الأولى للزلزال تصدر تحذيرا من الدرجة الرابعة يناشد مساعدة دولية، واستنفرت الحكومة التركية كل طاقاتها مسخرة كل موارد الدولة لإدارة الأزمة المستجدة، بينما اقتصرت ردود الأفعال في المناطق التي ضربها الزلزال من الشمال الغربي من سوريا، أو المناطق الخارجة عن سلطة النظام السوري – كما يفضل البعض تسميتها – على تناقل صرخات الاستغاثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صرخات استغاثة موجهة لمؤسسة الدفاع المدني محدودة الإمكانيات، ولأصحاب النخوة من المواطنين في حالة تكرس اليتم في أقسى معانيه، حيث لا حكومة ولا دولة ولا مؤسسات دولة.

من جهة ثانية، خلق الموقع الجغرافي لتلك المنطقة التي عصف بها اعتباط الطبيعة بعدا آخر للأزمة الإنسانية التي أحدثها الزلزال، فالمنطقة محصورة بين حدود شمالية مع تركيا التي انشغلت بمصابها وأعلنت حالة الطوارئ وأغلقت الحدود، وحدود غربية مع المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية التي عرضت المساعدة رغم إمكانياتها المتواضعة، إلا أن عدم وجود سلطة محددة قادرة على اتخاذ القرار باستقبال هذه المساعدات أو رفضها عطل دخول قافلة المساعدات في وقتها، أما الحدود الجنوبية فهي مع القسم الآخر من سوريا الذي يخضع لسيطرة النظام السوري الفاقد للشرعية الأخلاقية، والمحتكر لتمثيل الدولة السورية وفق القوانين الدولية، وهناك حيث كل شيء موجه لخدمة السلطة؛ على الفور بدأ النظام باستثمار الكارثة سياسيا، وفيما يبدو وكأنها خطة إعلامية جاهزة؛ أطلق النظام السوري حملة شعواء من أجل رفع العقوبات عنه، مخيرا العالم بين السكوت عن حصار المنطقة المنكوبة في الشمال الشرقي من سوريا، وبين القبول بالتطبع معه.

ومن جهة ثالثة، ما جعل المأساة أكثر عمقا أن هذه المناطق التي ضربها الزلزال هي مناطق حدودية ذات بنية تحتية ضعيفة أجهزت الحرب على الموجود منها، وقد أصبحت مكتظة بالسكان نتيجة موجات نزوح جماعية هربا من بطش النظام الذي ترك لدى معظم السوريين ندوبا جسدية وعاطفية ونفسية. وهي مناطق تعاني من ضعف شديد على مستوى المنظومة الطبية والصحية؛ كل شيء فيها متهالك؛ ابتداء من الاقتصاد وانتهاء بالمؤسسات الخدمية. أضف إلى ذلك أنها منطقة محدودة الموارد يعتمد معظم سكانها على المعونات والمواد الإغاثية. أي، أن معظم السكان يعيشون على الحد الأدنى لمتطلبات الحياة، فهي منطقة يعشعش الفقر في معظم بيوتاتها وخيامها.

الزلزال الذي توقفت هزاته هو كالنظام السوري سيترك للناجين ندوبًا جسدية وعاطفية ونفسية يمكن أن تستمر مدى الحياة

أخيرا، مع كل وقفة، ومع كل تعثر، وعند كل مفترق طرق، ومؤخرا، مع كل كارثة يزداد وضوحا ما ذهب إليه "جوزيف شتراير" عندما اعتبر الإنسان لا شيئا من دون دولة، "إن أفظع مصير يمكن معرفته في العالم الراهن، هو مصير من لا وطن له"..."إن شخصاً من دون عائلة، ومن دون سكن ثابت، ومن دون انتماء ديني يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية، لكنه من دون دولة ليس شيئاً، وليست له حقوق، ولا أمن، وعلى الأرض لا خلاص خارج إطار دولة منظمة". ومع الكارثة التي خلفها الزلزال أصبح الأمر أكثر تعقيدا، فالزلزال الذي توقفت هزاته هو كالنظام السوري سيترك للناجين ندوبًا جسدية وعاطفية ونفسية يمكن أن تستمر مدى الحياة. وسيكافح كثير من الناس لإعادة بناء حياتهم في أعقابه، سواء على المستوى النفسي أم على المستوى الاقتصادي.

ليس لأنه زلزال القرن، أو لأنه جاء عند الرابعة صباحا في طقس شديد البرودة، وإنما لأنه ضرب من يشبهون الأيتام في منطقة محاصرة يعاني سكانها من الفقر؛ منطقة تكاد تكون استثناء عن كل بقاع الأرض من حيث غياب السلطة. من أجل ذلك كله: زلزال الشمال السوري ليس ككل الزلازل.