تشهد سوريا أزمة وقود خانقة تتفاقم مع دخول فصل الشتاء، حيث يعاني المواطنون من نقص حاد في البنزين والمازوت، ما أدى إلى تعطيل وسائل النقل وزيادة حالة التذمر الشعبي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
ويحاول النظام السوري احتواء الأزمة وطمأنة السوريين من خلال إعلانه تخفيض أسعار المحروقات ورفع الكميات المخصصة لوسائل النقل، بالإضافة إلى فتح باب التسجيل على مازوت التدفئة مبكراً، إلا أن التأخر في وصول شحنات النفط الإيراني – المصدر الرئيسي للوقود في البلاد – يبقى العامل الرئيسي، ويخضع لأسباب متشابكة.
وكشفت "مصادر حكومية" لصحيفة "الوطن" إلى أن "الظروف العالمية وتفاقم الأوضاع في البحر الأحمر" تسبب في تأخير وصول شحنات النفط الإيراني.
ولا تعاني إيران من نقص في النفط الخام، لكن ندرة الناقلات التي تخاطر بانتهاك العقوبات الأميركية أثرت على استمرارية الإمدادات إلى سوريا، وهو ما يفسر ظهور الأزمة من حين لآخر. وقد تسهم عوامل جديدة، مثل التصعيد بعد طوفان الأقصى، في زيادة أمدها.
وتولي طهران اهتماماً كبيراً لصادراتها إلى الصين التي تدفع نقداً، على حساب الكميات المخصصة لسوريا بسبب عدم توفر السيولة واعتماد النظام على الخط الائتماني، ما يسهم في نقص حاد بالمحروقات. بالإضافة إلى ذلك، أدى تحول أسطول "الناقلات الشبح" لنقل النفط الروسي بعد العقوبات الغربية عليه، إلى تقليص القدرات اللوجستية المتاحة لإيران لتصدير النفط إلى سوريا، ما يؤخر وصول الشحنات.
ودخلت إسرائيل، بعد "طوفان الأقصى"، على خط الأزمة حين فرضت لأول مرة عقوبات على ناقلات النفط الإيرانية التي أسهمت في نقل النفط إلى سوريا، كما اغتالت المسؤول الأول عن ملف النفط، براء قاطرجي، الذي امتلك ناقلات نفط صغيرة وعمل على تأمينه من مناطق سيطرة قسد.
احتواء الأزمة بالتصريحات
وفي محاولة لاحتواء الاحتقان الشعبي المتزايد، أعلنت "وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك" في حكومة النظام السوري عن إصدار نشرة جديدة لأسعار المحروقات تضمنت تخفيضات على أسعار البنزين والمازوت. وذكرت الوزارة أن هذه التخفيضات تهدف إلى "التخفيف من حدة الأزمة الحالية".
وزعمت وزارة النفط في حكومة النظام أنها ضخت كميات إضافية من المازوت لقطاع النقل في المحافظات، بهدف تحسين حركة النقل وتخفيف معاناة المواطنين. وذكرت الوزارة أن "ضخ هذه الكميات سيسهم في التخفيف من أزمة النقل"، التي شهدت ازدحامات كبيرة خلال الشهر الماضي.
وأكد مصدر في محافظة دمشق أن "النقص في إمدادات المازوت مستمر"، حيث انخفض عدد طلبات التعبئة اليومية من 16 طلباً إلى 12 طلباً فقط. وأضاف أن "الحاجة اليومية تتجاوز 20 طلباً، ما يزيد من تفاقم الأزمة في وسائل النقل العامة".
وقبل يومين، أعلنت حكومة النظام السوري عن "بوادر انفراجة"، مشيرة إلى تحسن قريب في تأمين المشتقات النفطية. جاء ذلك خلال الجلسة الأسبوعية لـ"مجلس الوزراء"، حيث صرح وزير النفط والثروة المعدنية، فراس قدور، بأن الوضع يتجه نحو الأفضل فيما يتعلق بتوفير المحروقات وتوزيعها على مستحقيها في مختلف القطاعات.
وأعلنت "الحكومة" عن تحديد بداية شهر تشرين الأول المقبل موعداً لبدء توزيع مازوت التدفئة على العائلات، حيث أكد "وزير" النفط أن "تأمين مادة مازوت التدفئة يعتبر من أولويات عمل الحكومة". كما أشار إلى بدء التسجيل لتوزيع المازوت اعتباراً من 25 أيلول 2024، وأن التوزيع سيبدأ في المناطق الباردة أولاً قبل تعميمه على كل المناطق.
ورغم تصريحات النظام المتكررة بشأن الجهود المبذولة لتخفيف الأزمة، فإن الوضع على الأرض يزداد سوءاً. ولم تحدد حكومة النظام أي جدول زمني لعودة توريدات النفط الإيراني إلى مستوياتها السابقة، ما يترك المواطنين في حالة من الترقب والقلق.
حقيقة وصول ناقلة نفط إيرانية
وفي الوقت ذاته، أفادت مصادر مقربة من النظام السوري بوصول ناقلة نفط إيرانية تحمل أكثر من مليون برميل إلى مصب بانياس النفطي. وأوضحت المصادر أن عملية تفريغ الناقلة بدأت، وأن النفط سيتم نقله إلى مصفاة بانياس لتكريره وتوزيعه على المحافظات السورية.
وبتتبع موقع تلفزيون سوريا لحركة أكثر من 400 ناقلة نفط استخدمتها إيران سابقاً لتوريد النفط إلى سوريا، لم تظهر أي واحدة قبالة السواحل السورية أو في طريقها إليها، وتبين صور أقمار صناعية ملتقطة أواخر الشهر الماضي وبداية الحالي رسو ناقلتين نفط على مصب بانياس النفطي قبل بدء الأزمة بأيام.
ودفع انخفاض الصادرات والتصعيد الإقليمي النظام إلى الاقتصاد في صرف الوقود بشكل كبير، كما تظهر بيانات الصادرات التي اطلع عليها موقع تلفزيون سوريا انخفاض الكميات المرسلة من إيران مقارنة بالعام الماضي، حيث بدأ المنحنى بالهبوط منذ منتصف العام الحالي.
واردات سوريا
رسم بياني لصادرات النفط الإيراني إلى سوريا (بالألف برميل)
وتشير البيانات الحديثة إلى تذبذب ملحوظ في صادرات النفط الإيراني إلى سوريا على مدار عامي 2023 و2024. وفقاً للأرقام التي أصدرتها منظمة "UANI"، شهدت صادرات النفط الإيراني إلى سوريا ذروتها في نيسان 2023 حيث بلغت 144 ألف برميل، في حين سجلت أدنى مستوى لها في كانون الأول 2023 مع 49 ألف برميل فقط. على الرغم من أن البيانات تظهر ارتفاعاً ملحوظاً في بعض الأشهر، مثل نيسان وأيار وتموز 2023، حيث تجاوزت الصادرات 120 ألف برميل، إلا أن هناك انخفاضات حادة في أشهر أخرى مثل كانون الأول 2023.
واتجهت الصادرات نحو الانخفاض في منتصف 2024، ومن آذار إلى آب 2024، لوحظت بعض الانخفاضات التدريجية، حيث انخفضت الصادرات إلى 36 ألف برميل في حزيران و81 ألف برميل في آب.
الصين
رسم بياني لصادرات النفط الإيراني إلى الصين (بملايين البراميل)
الصين أولوية لإيران
في حين أن الصين تستحوذ على الحصة الأكبر من صادرات النفط الإيراني، تأتي سوريا في المرتبة الثانية أو الثالثة بانتظام، حيث تستورد عشرات الآلاف من براميل النفط يومياً. وبينما تتجنب الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، إزعاج الصين، تشدد هذه الدول العقوبات على النظام السوري.
ومنذ تولي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه في 2021 وحتى كانون الأول 2023، أسهمت الصين بشكل كبير في دعم النظام الإيراني من خلال مشتريات النفط التي تجاوزت 100 مليار دولار. تشير التقارير إلى أن أربعة من كل خمسة براميل من النفط الإيراني المُصدَّر تذهب إلى الصين.
وتشتري الصين النفط الإيراني بأسعار مخفضة، تقل عن 4 دولارات للبرميل تحت سعر خام برنت، وتلعب "ناقلات الشبح" الإيرانية وغيرها دوراً رئيسياً في صادرات النفط إلى الصين. ويُنَشَّط معظم الأسطول الإيراني في هذه العملية المعقدة لتجنب العقوبات، حيث تسلم السفن النفط إلى أخرى في أعالي البحار بعد إطفاء أجهزة التتبع، ويستغرق ذلك مزيداً من الوقت، وقد تأخذ الشحنة أشهراً حتى تصل إلى وجهتها.
وبحسب البيانات، فإن صادرات النفط إلى الصين أكثر استقراراً وتزايدت خلال العام الجاري. في المقابل، تواجه الصادرات إلى سوريا تذبذباً أكبر بسبب أولويات إيران في توفير المال ومخاطر نقل النفط إلى النظام.
روسيا عامل جديد
فرضت مجموعة السبع، والاتحاد الأوروبي، وأستراليا في كانون الثاني 2022 سقفاً سعرياً بقيمة 60 دولاراً للبرميل على النفط الخام الروسي المنقول بحراً بهدف الحد من صادرات روسيا. والتفت روسيا على هذه القيود عن طريق استخدام "أسطول الظل" أو "الأسطول الشبحي"، الذي تستخدمه إيران لنقل نفطها، ما خلق منافسة بين الطرفين على استئجار الناقلات التي تخاطر في تجاوز العقوبات الغربية. ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، تحول ما لا يقل عن 91 سفينة كانت سابقاً تعمل في نقل النفط الإيراني إلى نقل النفط الروسي، وتبحر هذه السفن تحت أعلام مختلفة مثل بنما، والغابون، وجزر كوك ،وغيرها.
إسرائيل تتدخل لأول مرة
لم تتدخل إسرائيل في شحنات النفط الإيراني إلى النظام السوري خلال الأعوام الماضية بشكل مباشر، لكن بعد "طوفان الأقصى" تغيرت حساباتها تجاه خط النقل والشخصيات القائمة عليه. وفي منتصف تموز الماضي، قُتل رجل الأعمال السوري محمد براء قاطرجي، المقرب من النظام السوري، في غارة جوية إسرائيلية قرب الحدود اللبنانية. وكان قاطرجي مسؤولاً عن نقل النفط السوري والإيراني، وتصفية هذه المشتقات وبيعها. كما لعب دوراً رئيسياً في الالتفاف على العقوبات الأميركية وتنسيق عمليات تهريب النفط، ما جعله هدفاً للاستهداف الإسرائيلي.
وبعد مقتل قاطرجي بأسبوعين، فرض المكتب الوطني الإسرائيلي لمكافحة تمويل الإرهاب (NBCTF) التابع لوزارة الدفاع لأول مرة عقوبات على 18 ناقلة بحرية لـ"تورطها في التجارة غير المشروعة للنفط الإيراني". وشاركت هذه الناقلات في عمليات نقل "مظلمة" (أي تعطيل أجهزة التتبع) للنفط من سفينة إلى أخرى قبالة السواحل السورية، بالتعاون مع ناقلات أخرى خاضعة للعقوبات الأميركية.
الولايات المتحدة تذكر بالعقوبات
تزامنت أزمة المحروقات في سوريا مع إصدار وزارة الخزانة الأميركية تحذيراً جديداً يتعلق بمخاطر العقوبات المفروضة على الأفراد والكيانات المتورطة في شحنات النفط إلى النظام السوري. وأكدت الوزارة في إشعارها الصادر في 11 أيلول الجاري أن أي شخص أو كيان يسهل نقل النفط أو يقدم الدعم المالي واللوجستي لحكومة النظام السوري يواجه خطر فرض عقوبات أميركية صارمة.
وأشار الإشعار إلى أن شحنات النفط إلى سوريا، التي تشمل نفطاً إيرانياً المنشأ، تشكل انتهاكاً للعقوبات الأميركية، مضيفاً أن بعض السفن المتورطة في هذه العمليات أُدرجت على قائمة العقوبات الأميركية. وذكر البيان أن العقوبات تهدف إلى "زيادة الضغط على نظام بشار الأسد وحلفائه، وحرمانهم من الموارد الاقتصادية التي تُستخدم في تمويل العمليات العسكرية واستمرار الحرب".
تشير كل العوامل السابقة والتي يمكن أن يضاف لها انزعاج إيران من النظام السوري بسبب مواقفه الأخيرة المتمثلة بالموافقة على التطبيع مع تركيا أو وقوفه على الحياد من التصعيد بين إسرائيل والمحور الإيراني، إلى أن التقلبات الكبيرة في صادرات النفط الإيراني إلى سوريا ستستمر وقد يتجاوز النظام الأزمة الحالية لكنه سيواجه أخرى قريبا.