icon
التغطية الحية

رواية "كورونا الحبّ والحرب".. علاقات إنسانية في مهبّ الخوف والوباء

2022.01.07 | 12:21 دمشق

kwrwna_alhb_walhrb-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

 ما تزال الأعمال الأدبيّة التي تتناول جائحة كورونا محدودة نسبيًا؛ بالرغم من مرور ما يقارب السنتين على ظهورها، ولعلّ رواية "كورونا الحبّ والحرب- ملحمة كتبت أثناء الحجر" للروائي والإعلامي القطري (جاسم سلمان) إحدى الروايات التسجيليّة التي يوثّق الكاتب فيها بدايات ظهور الوباء في منطقة الخليج العربي والتي تزامنت مع فترة حرجة وعصيبة متخمةُ بالتفاصيل المؤلمة؛ إذ ابتُليت فيها المنطقة بالنزاعات والحروب المضمرة والمُعلنة التي كان لها تأثيرٌ كبير على المنطقة وأهلها.

وكانت منطقة الخليج قبل زمنٍ ليس باليسير قد بدأت تحوّلها من الحياة التقليدية التي تنهض على أنماط معينة من العلاقات تتّسم بالقوة والوضوح، إلى نمطٍ آخر مختلف عمّا كان سائدًا في الماضي، وقد لعبت الجائحة والصّراعات الدائرة في تلك المنطقة دورًا كبيرًا في ذلك التحوّل.

عن الرواية "التسجيلية"

تنبثق الرواية التسجيلية من رصد حقبة تاريخية؛ كأن تكون حربًا كونية، أو ثوراتٍ وتظاهرات عالمية، أو أزمة مالية أو صحية كما هي الحال في رواية (كورونا الحبّ والحرب).

وقليلاً ما نجد الكتاب يميلون إلى هذا النوع السردي مكن الرواية، ولعل السبب يكمن في خصائصه الفنية والموضوعية التي تجعل الكاتب في حالة تأهب وهو يحشد طاقاته ويبذل مجهوداته، معتنياً بالتفاصيل وجامعاً الوثائق. وهذا ما يجعل الرواية التسجيلية في الغالب ذات حجم يتجاوز الحجم المألوف في الأنواع السردية الأخرى.

تتداخل الأزمات وتتشابك في السرد التسجيلي، وتكمن براعة الكاتب في قدرته على تسجيل أحداث كثيرة حتّى يغدو الحدث الواحد عرضيًا ولا أهميّة له إلّا من خلال تموضعه داخل عدد من الأحداث التي تتداخل فيما بينها، ولعلّ أهمّ ملمحٍ في هذا النوع من السرد التسجيليّ الاهتمام بالتفاصيل التي قد تكون من الغرابة واللاواقعية بما لا يمكن معه الارتفاع تخيليًا؛ لأنّها ولشدّة واقعيّتها تبدو متخيّلة.

تفاصيل "كورونا الحب والحرب"

يسرد الكاتب تفاصيل صعود (عامر) السريع والمريب بوصفه محور الشرّ في الرواية إلى مسرح الأحداث في قريته، من خلال علاقته بجهة مجهولة تمتلك القوّة والنفوذ والقدرات الخارقة ينسبها الكاتب للجنّ، في إشارةٍ منه إلى القوّة الخرافية التي تمتلكها تلك الجهة القادرة على اختصار المسافات وتحقيق المستحيلات.

يمكننا القول مجازًا: إنّ البطل في هذه الرواية هو العلاقات الإنسانيّة في عالمٍ غدا مهووسًا بالحداثة في كلّ جوانب الحياة؛ إذ بدأ يحلّ نمطٌ من التعامل بين أفراد المجتمع لا ينتمي لنمط العلاقات السائد والمتعارف عليه في الماضي في مجتمع عُرف عنه التماسك مقارنةً بمجتمعاتٍ أخرى؛ وهو نمط الصّلات العابرة والغامضة؛ كعلاقة (عامر) بشريكه (خزعل)، وبتلك الجهة الغامضة التي تدعم ظهوره وتمهّد له الطريق إلى عالم المال والسلطة. 

(عامر) الشخصيّة الغامضة في تحوّلها وصعودها من الهامش إلى المركز، ليس لديه أصلٌ ولا جذور؛ لهذا يتعرّض للإقصاء من قِبل مجتمعه، يتعرّض للغمز من قِبل إحدى نساء القرية بأصله وفصله، ممّا جعله ينقم على القرية كلّها، عندما هدّدهم بالتوقّف عن رعي أغنامهم لأنّ الأجر الذي يتلقّاه منهم لقاء ذلك زهيد:

"أنت الخاسر! فلا مصدر رزق لديكم إلّا الرعي بعدما ترككم والدكم الذي هرب من فقركم، وأنت لا خال لك ولا عمّ، ولا أصل ولا فصل تعتمدون عليه سوى ما نتفضّل به نحن الأعيان وأهل الجاه عليك أنت وأمّك".

تلك الحادثة كانت سببًا في تأجيج نقمته وقراره الانتقال من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة صنع الفعل، عندما قرّر أن يغيّر تاريخه ويصنع لنفسه تاريخًا جديدًا يغطّي على هشاشة أصله وجذوره من خلال اعتماده على المال والسلطة؛ ليصنع تاريخًا ناصعًا ومشرقًا يخطف أبصار من حوله ويغنيهم عن التدقيق والتنقيب في أصله ونسبه.

تتزامن رغبة (عامر) تلك وتتقاطع مع ظهور تلك الجهة الغامضة ذات المطامع الكبيرة في المنطقة؛ إذ تسعى للسيطرة على الصحراء وتدعم تلك الجهة المجهولة صعود (عامر)، ليتمكنوا من السيطرة على الصحراء من خلاله وإدارة أعمالهم من خلف الكواليس، فيكملوا بذلك مشاريع السيطرة وسرقة خيرات الصحراء والبلد؛ الخيرات التي لا يعلم أهلها عنها شيئًا.

 لا يصرّح الكاتب بجنس أو حقيقة تلك الجهة، بل يلجأ إلى التلميح والإشارة إليهم، فهم جهة غامضة تمتلك قوى خارقة تتجاوز قدرات البشر العاديين، لكن في نفس الوقت هم بحاجة إلى شخصٍ من أهل المنطقة مؤهّل ليكون واجهةً لأعمالهم المريبة التي يتوخّون من خلالها السيطرة على المنطقة ومقدّرات البلد وثرواته، وهذا الشخص لم يكن إلّا (عامر) التوّاق إلى المال والسلطة؛ ليمحو بهما تاريخه الفرديّ الخاص الذي لا يرضيه، ويتمكّن من خلال شبكة العلاقات الجديدة التي أحاط نفسه بها من سدّ فجوة الأصل والروابط التي يفتقد إليها.

قلّما يهتم الكاتب بالأبعاد النفسية للشخصية، يمرّ بها مرورًا سريعًا، ويصرف جلّ اهتمامه إلى التفاصيل، ويجعل منها أداته الرئيسة في بلوغ الهدف المتمثّل في الحقيقة

وقد كان له ما أراده حين التقت إرادته تلك ومصالحه بمصالح تلك الجماعة الغامضة المجهولة، اكتفى الكاتب ببعض الإشارات العابرة إليهم: "هؤلاء البشر الذين معكم، ليسوا منا، وأشكالهم مختلفة، ليسوا سمرًا، ولم تقربهم شمسنا الحارة، وشعرهم أصفر مثل الشمس، ووجوههم حمراء".

قلّما يهتم الكاتب بالأبعاد النفسية للشخصية، يمرّ بها مرورًا سريعًا، ويصرف جلّ اهتمامه إلى التفاصيل، ويجعل منها أداته الرئيسة في بلوغ الهدف المتمثّل في الحقيقة، وعندما عرّج الكاتب على بعض الصفات النفسية لشخصية (عامر)؛ فإنّما كان هدفه الكشف عن سبب نقمة (عامر) على مجتمعه الذي يقيم وزنًا كبيرًا لقضيّة الحسب والنسب، وقد لعبت تلك النقمة دورًا رئيسًا في دفع أحداث الرواية وتأجيجها.

طفولة (عامر) البائسة التي تنعدم منها الذكريات الجميلة، يبالغ الكاتب في تجريده من روابط العائلة الدافئة، فوالده مفقود ومصيره مجهول وقد تخلّى عنهم بملء إرادته، أمّا العلاقة بين (عامر) وأمه فإنّها تصبح فاترة ومعدومة فيما بعد، لا زوجة ولا أطفال يظهرون في محيطه ولا أثر يوحي بوجودهم بالرّغم من وجودهم حقيقةً:

"كانت طفولة بائسة، والذكريات الجميلة معدومة منها، كان يجمع العلب البلاستيكية، ويركض في الدروب الترابية، يلمّ ما يرميه المارّة أو ما يجده في براميل القمامة من علب وبلاستيك، لتحمله أمّه الفقيرة صاحبة الظهر المحدودب، والجسد الهزيل من شدّة ما أثقلتها السنون من أحمال وهموم، وتبيعه في السوق بالكيلو، كما أنّه لم يكمل دراسته حينها؛ لأنّه لا يملك قوت يومه، لا يملك وقتًا للعب مع الصبيان في الأزقّة، لكنّه يخرج إلى البريّة ليلًا مثيرًا استغراب أقرانه ممّن تشبّعوا بحكايات الجنّ الذين يملؤون الأمكنة ويحرسون الصحراء وخصوصًا ظلمة".

إنّ الكاتب حين يسرد لحقبة مهمّة من تاريخ منطقة الخليج بغية توثيقها وتسجيلها، لا يكشف لنا عن المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية بشكلٍ كامل؛ إنّها قرية صغيرة تقع بجوار البحر، وأهلها فقراء وبسطاء، يجهلون الكنز الضخم الذي ترقد فوقه قريتهم، لكنّ جهة مجهولة تكتشفه ومن خلال (عامر) واجهتهم وابن المنطقة تلك؛ تتحوّل القرية من مجرّد قرية مهملة إلى سيّدة القرى حولها، ممّا جعلها محطّ أنظار القرى والمدن حولها، فتحاول محاصرتها وتمييع دورها وخطفه منها، إذ غدا دورها لافتًا في المنطقة، ولذلك يُدعم (عامر) وشريكه (خزعل) من قِبل حزب المستفيدين ويتمّ تنظيم حملات إعلامية ضخمة يُروّج له من خلالها، وفي سبيل ذلك يغدق (عامر) المال والمكاسب على المنضوين تحت رايته، يمنحهم الأراضي والاستثمارات والعقود، كان باذخًا في عطائه لهم، بخيلًا وشحيحًا عمّن سواهم؛ أمّا شريكه (خزعل) فيفضّل دعم رجال الدين لكن على طريقته، ويقمع كلّ صوتٍ يخالف صوته، وطرائقه عجيبة في كل شيء؛ الدين والتجارة والآراء والأفكار.

يتخلّص (عامرٌ) و(خزعل) من كلّ من هو متديّن في الحقيقة، ويحتفظان بالأبواق، حتّى الثقافة ودعم المثقفين مجرّد واجهة والمهرجانات الثقافية هي من أجل السيطرة على المجتمع، ولتسليط الضوء على إرث أجدادهما العظام.

كما يلجآن إلى استمالة الإعلاميين والمفكّرين ومنهم (جميل)؛ لامتلاكه شخصيّة مؤثّرة في الرأي العام، وبناء الحضارة والتاريخ لا يمكن إلّا بتكوين إرث ثقافي والاشتغال عليه: "حين يكتب جميل أو يظهر في الشاشات الفضية، تقلّ الحركة في الشوارع، وتتناقل الناس تصريحاته، ويطالبه الناس عندما يلتقون به بإصدار كتاب له، وهو يرى أنّ مواقع التواصل والإعلام الجديد أكثر نجاعة في إيصال الأفكار والآراء من طباعة الكتب التي لا يقرؤها أحد، ومن الصحف التي لا يقرؤها إلا الموظفون في مكاتبهم، بفتح الصفحات الرياضية، وينتهي المطاف بها في القمامة، أو تحت الموائد".

(جميل) نموذج الكاتب الملتزم الذي لا يساوم ولا يهادن وحين ينصحه أحد الأصدقاء بالاستفادة من علاقاته المتشعّبة مع الأعيان (عامر) يرفض لأنّ تاريخه المهنيّ ككاتب يمنعه من ذلك، يطلق جميل على حروب المنطقة (الجاهليّة الجديدة): "يرى جميل أنّ الجاهلية قد بدأت لكن بشكل حديث ومنمّق، وبعض أشكالها النفاق والشقاق، وعودة الحروب لكن بلا دماء، حروب وغزوات واقتتال عن بعد، ويدعو الله ألّا تكون الجاهلية الأولى بحذافيرها".

 يضطر (جميل) للهرب بسبب تسارع الأحداث في المنطقة وخوفه على حياته بعد رفضه التعامل مع (عامر) وشريكه (خزعل)، فأمواج القهر والظلم تتلاطم، وستغرق كلّ من يقف في وجهها ولا برهان على وعي الناس كما يرى، فالأكثرية مغلوب على أمرها، وهناك سيطرة مدروسة باغتت الكل، الطغاة لا يسمعون إلّا صوتهم، ولا أمل في إقناعهم بسماع الأصوات الأخرى.

أمّا (جبران) الذي يمكننا اعتباره محور الخير والحبّ والجمال في الرواية؛ فيرى أنّ هناك تغييرًا قادمًا: "المنطقة على ما يبدو ستدخل في استثمارات ونجاحات، وبدلًا من الأموال والثروات التي تُصرف على الحروب، ستنصبّ على التطوير وتحسين أوضاع الناس ونرتاح من مرحلة التسخين التي طالت".

يتطرّق الكاتب إلى هلع بعض الشخصيات الثانوية في الرواية التي يمكن وصفها بالطفيليّة أثناء الوباء من استبدالهم بغيرهم أو نبذهم، فالوباء قد قلب الطاولة على الجميع، فهم قبل الوباء اجتاحتهم حمّى السعي إلى إقامة شبكة من العلاقات مع الأطراف القوية في محيطهم (عامر وخزعل) ليحقّقوا من خلال هذه العلاقات الأمن والاستقرار والوجود، ويتأرجحون في سعيهم ذاك بين أحلام وآمال كثيرة، ليسقطوا مع ظهور كورونا في كابوس الوباء؛ أصبحت العلاقات حديث المدينة الأكثر إثارةً بين ليلةٍ وضحاها، كما أصبحت ربّما اللعبة الوحيدة التي تستحق اللعب في المدينة بالرغم من مخاطرها.

في خضم سعير الحرب التي تسود المنطقة وتضارب المصالح وتشابك العلاقات وتحوّلها؛ يظهر نمط من العلاقات الصافية (علاقة الحب بين جبران وليلى) لكنّها لا تنجو من كابوس حرب قديمة بين العائلتين دفعت ب(جبران) للاستسلام لاستحالة نجاة حبّهما وخوفه من الرفض الذي سيلقاه حتمًا من قبل عائلة (ليلى)، لذلك يتراجع الحبّ مبدئيًا في بداية الرواية لصالح الحرب، ليأتي الوباء حاملًا شبح الموت معه ويضع حبّ جبران لليلى على المحكّ، وينتزعه من تردّده ويدفعه إلى اتخاذ قرار المواجهة ليفوز بمحبوبته.

 نجا الحبّ مبدئيًا من الحرب عندما قرر (جبران) المواجهة وعدم تخلّيه عن (ليلى)، لقد استطاع (جبران) انتشال حبّه من قبضة حرب قديمة عندما قرر المواجهة؛ لكنّ الحب لا ينجو من قبضة الوباء، إذ انتقلت العدوى إلى (جبران) من محبوبته (ليلى) التي نجت من الوباء بفضل الحبّ أمّا (جبران) فلم ينجُ.

تتدرّج العلاقات الإنسانيّة في الرواية بين الحبّ والحرب، الخير والشرّ، الجمال والقبح؛ والصراع الأزليّ بينها، وبالرّغم من رجحان كفّة الحرب على الحبّ في بداية الرواية، وتراجع علاقة الحب الصّافية التي جمعت (جبران) ب( ليلى)، ورضوخهما لندوب حرب قديمة بين العائلتين، واستسلامهما لبعض الانحرافات في طرق بديلة كوسيلةٍ للنسيان؛ حين مضى (جبران) في علاقات مؤقتة وعابرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لينسى حبّه ل (ليلى)، بينما مضت (ليلى )في طريق الزواج من شخصٍ آخر، لكن حين قفز إلى ساحة الصّراع تلك طرف ثالث مجهول ممثّلًا بالوباء الذي ألقى شباكه على (ليلى)، عاد الوهج والبريق لحبّهما مجدّدًا؛ لكنّ ذلك الوهج لم يدم طويلًا، فالحبّ الذي نجا من الحرب لم ينجُ من الوباء؛ الوباء الذي وضع حدًّا لكلّ العلاقات ساميةً كانت أم وضيعة، خيّرةً أم شريرة، لنفهم رسالة الكاتب ومفادها: عبثية الصراعات المحتدمة، وهشاشة العلاقات الإنسانية الواضحة والغامضة على حدّ سواءٍ أمام فيروس متناهٍ في الصغر استطاع وحده أن يقلب الطاولة على الجميع وأن يضع حدًّا للحبّ والحرب معًا.