icon
التغطية الحية

رواية "العمى" لـ ساراماغو تستشرف حالة كوفيد-19 قبل ربع قرن

2021.07.26 | 12:44 دمشق

saramaghw.png
راغب بكريش
+A
حجم الخط
-A

نشر الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو روايته "العمى" في عام 1995، أي قبل ثلاثة أعوام من نيله جائزة نوبل للأدب وقبل ربع قرن من جائحة كوفيد-19. لكننا لن نبالغ إذا قلنا: لو تم استبدال كلمة "كوفيد-19" بكلمة "العمى" في كل مكان وردت فيه الأخيرة داخل الرواية، ابتداءً من العنوان، فلن يشعر القارئ بأنّ شيئاً غريباً قد حصل.

أحداث الرواية

فجأةً، يُصابُ أحد الأشخاص أثناء قيادته السيارة بـ (العمى الأبيض)، وهو الاسم الذي أُطلِق على هذا الوباء فيما بعد، فقد تميّز العمى الذي أُصيب به الناس بأنّه يعطي انطباعاً للإنسان بأنّه غارقٌ في بحرٍ من الحليب، وليس كالعمى الاعتيادي  المرتبط بالظلام والسواد.

وبعد إصابته، يصبح اسم ذلك الشخص في الرواية "الأعمى الأوّل"، ويضطر شخصٌ عابر لإيصاله إلى منزله ثم يسرق منه السيارة ليصبح اسمه "اللص/ لص السيارة"، وهذا اللص سيُصاب أيضاً بالعمى. يزور "الأعمى الأوّل" مع زوجته عيادة طبيب العيون التي كانت تكتظّ بالمرضى، وهؤلاء المرضى سيحملون أسماء على حسب صفاتهم -وهذا ما درج عليه ساراماغو الذي لم يمنح لشخصياته أسماء عَلَم في الرواية- مثال: الفتاة ذات النظارة السوداء، والرجل المسنّ ذو العصابة السوداء، والطفل الأحول.. إلخ.

كلّ أولئك سيصابون تِباعًا بـ العمى الأبيض، وسيشكّلون الدفعة الأولى من المصابين، كما ستدور أحداث الرواية معظمها حولهم، مع طبيب العيون وزوجته وممرّضته وزوجة الأعمى الأول، بالإضافة إلى "خادمة الفندق" التي كانت أول من احتكّت بـ الفتاة ذات النظارة السوداء حين أُصيبت بالعمى في أثناء إقامتها في إحدى غرف الفندق.

إلا أنّ زوجة الطبيب كانت قد ادّعت الإصابة بالمرض عندما أرادت السلطات الصحية وضع زوجها في حجرٍ صحّي مع مرضى آخرين، فآثرت مرافقة زوجها، ورغم ذلك لم تُصب بالعمى لتبقى هي الوحيدة التي باستطاعتها الرؤية. ولا يتم تفسير سبب هذه الظاهرة حتى نهاية الرواية.

تعاطي السلطات مع المصابين

وبالرغم من تحوّل المرض إلى وباء،  فإن بيروقراطية البلد تبقى متجلّية بأبشع صورها. حتّى إنّ بدايات التعامل مع المرض كانت غير جادّة وليست على مستوى التصدي لـ وباء/ جائحة، لكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر، بل الأسوأ كان يتجسّد في طريقة تعامل السلطات مع المصابين. إذ تولّى الجيش مهمّة عزل المرضى، وبسبب أعدادهم الغفيرة افتتحوا المباني القديمة والمهجورة لإيوائهم، فكان نصيب أبطال الرواية مشفى للأمراض العقلية كان مهجوراً وقذراً وأقرب ما يكون إلى ثكنة عسكرية، مؤلفة من أربعة عنابر ضخمة في كل منها أربعون سريرًا والكثير من الممرات التي تنتهي بساحة مكشوفة.

يفلح الجيش في إعطاء التعليمات من دون أدنى اعتبارٍ لإمكانية تنفيذها؛ فأعطى رقيب دورية الحراسة تعليمات للمرضى بكيفية التقاط صناديق الطعام التي يرميها الجنود لهم كل يوم بالإضافة إلى آلية دفن من يموت منهم. كما هدّد الجيش بإطلاق النار على أي مصاب أو مشتبه في إصابته يحاول الخروج من المكان أو الاقتراب من الجنود، وقد قتل الحراس بالفعل العديد من المرضى الذين حاولوا الاقتراب.

دولة "عميان"

وبينما يحاول مجتمع "العميان" التأقلم مع الحياة الجديدة، تسيطر مجموعة منهم على موارد الطعام وتُعلن أنّ أحدًا لن ينال شيئًا من الطعام إلا بعد دفع ثمنه من المجوهرات التي يحملها. وبعد نفاد كلّ ممتلكات المرضى، يطالب اللصوص -وجميعهم من الذكور- نزلاءَ المشفى بإرسال نسائهم بالتناوب، بحيث يرسل كل يوم أحد العنابر نساءه ليُغتصبن مقابل إطعام العنبر كاملًا.

تحصل ثورة في المشفى ويخرج العميان فلا يجدون أيّ جندي حراسة فالجميع قد أصيب بالعمى، وتعطّلت كل أساليب الحياة، فلا موظّفون يديرون محطّات الكهرباء أو الماء ولا سائقون أو باعة، اجتمع أبطال الرواية بقيادة زوجة الطبيب وانتقلوا عبر الطرقات القذرة يبحثون عن الطعام، وكان هذا الأسلوب الذي اتّبعه كلّ من في الخارج من سكّان المدينة، حيث ينتقل العميان في مجموعات من أجل الحصول على الطعام من المخازن، طعامًا نيئًا أو فاسدًا لا يهمّ، كما أنّهم كانوا ينتظرون السماء كي تمطر ليتمكنوا من الشرب والاغتسال!

ينتهي الأمر بهذه المجموعة في منزل الطبيب، وبعد عدّة أيّام يعود البصر للأعمى الأوّل فجأةً كما أصيب به فجأة في مطلع الرواية. ثم تعمّ صيحات الفرح الشارع مع استعادة الناس بصرهم بالتدريج.

بين "العمى" وكورونا

ليس من المميّز أن يتوقّع شخصٌ ما طريقة تعامل الحكومات مع جائحة مثل هذه، إذ روّضتنا الأنظمة على التسلسل التالي: النكران، ثم التصرّف الحازم العنيف بقصد لملمة الحدث والالتفاف عليه، وغالبًا من دون تخطيط طويل أو متوسّط المدى. ويتبع ذلك إطلاق الوعود الكاذبة بقرب انتهاء الأزمة بينما هي في طور التفاقُم، وفي نهاية المطاف ينفجر الوضع لدرجة لا ينفع معها النكران وخروج الأمور عن السيطرة.

والمميّز الذي أتى به ساراماغو هو الاستشراف الدقيق لنفسيات المرضى وذويهم وانفعالتهم، وكذلك اكتشاف طريقة تعامل الحشود مع هذه الجائحة، وسيشعر القارئ بأن أحداث الرواية كاملة تدور في زمن وباء كورونا بالضبط؛ حيث مورِس التنمّر على المصابين وخاصّة الآسيوين منهم ونُبِذوا بشكلٍ مهين وكأنهم أساس الوباء (يقابله اليوم ارتباط الصينيين بـ كورونا والتعامل معهم على هذا الأساس). ثمّ تنمّرت الحكومات والدول على بعضها بعضاً، وبرزت بوضوح فئة تجّار الأزمات وهم في الرواية "اللصوص".

وفي مرحلةٍ من المراحل، أعطيت أولوية المتابعة والاهتمام لوباء العمى الأبيض، ما أدى إلى إهمال أمراضٍ أخرى والتسبب بحالات وفاة إضافية، ومثال ذلك حين مات لصّ السيارة من جراء إصابته بالتهابٍ شديد لكنه لم يُعالج. كما صوّرت الرواية الطريقة المُهينة التي دُفن بواسطتها الموتى لتبدو قريبة جداً من الطريقة التي يدفن بها موتى كوفيد-19.

النساء في الرواية

لعبت النساء دورًا مهمًّا ومعقداً للغاية في الرواية، ليس بسبب شخصية زوجة الطبيب فحسب، بل في مشاهد أخرى كثيرة من الرواية. فالنساء كُنّ المبادرات والمضحيّات، وهنّ اللواتي دفعن ثمن الطعام لـ اللصوص من خلال اغتصابهن، وهنّ اللواتي قتلن زعيم اللصوص بـ مقصّ زوجة الطبيب، وأحرقت واحدة من نساء العنبر الثاني معقل اللصوص لتدفع حياتها ثمنًا لهذه المغامرة.

كل ذلك لم يُلهِ ساراماغو عن إبراز الدور الرئيس للمرأة، والمتمثّل بـ الأمومة، ولعبت هذا الدور فتاة النظارة السوداء التي اعتنت بـ الولد الأحول كأمّ له، بالرغم من عملها بدوامٍ جزئي كـ "مومس" فإنّ ذلك لم ينزع من قلبها غريزة الأمومة.

 هذا الدور النسوي الاستثنائي في الرواية يحيلنا إلى الدور المحوري الذي لعبته النساء اللواتي يترأسن ويُدِرْن اليوم حكومات بلادهن ، في التصدّي لجائحة كورونا والتعامل معها بصورة أكثر حزماً وجدية مقارنة مع السياسيين الذكور. مثال ذلك "تسانغ إنغ ون" رئيسة تايوان التي تمكنت من احتواء الجائحة، بالإضافة إلى جاسيندا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلاند.

درس رواية "العمى" في التعامل مع الأزمات المعاصرة

بيّنت الرواية أثر أزمة "الأرض المَشاع" وانعكاساتها المباشرة على المجتمعات وأنظمتها. و"الأرض المشاع" تعبير يُقصد به أنّ الأرض المشاع التي يشترك في الاستفادة من عشبها العديد من رعاة الأغنام بشكلٍ متساوٍ، ستنهار ويتضرّر الجميع بمجرد أن يفكّر أحد الرعاة، مثلاً، بأنّه لو زاد في أغنامه رأسًا واحدًا فإنّ ذلك لن يضرّ الأرض ولن يضرّ زملاءه أو أغنامهم، وسيزيد ربحه بشكلٍ واضح.

ولكن ما لا يعلمه الراعي -بعد تنفيذ فكرته- أنّ كلّ زملائه فكّروا بنفس الطريقة أيضاً، فكانت النتيجة أن الأرض بعد أشهرٍ قليلة لم تستطع مجاراة الزيادة في العدد، فنَقُص إنتاجها وبدأت الأغنام تمرض وتموت وانخفض عددها تدريجيًا حتّى نفقت كلها وأصبحت الأرض جرداء.

كشفت رواية ساراماغو مدى افتقار الأنظمة لأدواتٍ رقابية فعّالة في ظلّ الأزمات الطارئة، حيث يفكّر معظم الناس بمصلحتهم الشخصية والاستفادة الخاصة على حساب النظام العام، مّا يؤدّي في النهاية إلى انهيار ذلك النظام برمّته.

فعندما لم يلتزم المرضى بالقواعد التي أملتها عليهم زوجة الطبيب في النظافة، غرقت الحمّامات بالأقذار وصار الناس يتغوّطون في الممرّات، فالجميع مصابون بالعمى وبالتالي يدركون أن أحداً لن يراهم وهم يفعلون ذلك. إلا أن المشكلة التي تهدف الرواية إلى إيصالها لا تكمن فقط في مسألة الرؤية من عدمها، بل إلى ما أدّت إليه تلك الحالة من انهيار العديد من المنظومات المجتمعية، ومن بينها منظومة (النظافة) وذلك من خلال إهمال الجميع لأدوات التنظيف التي كان الجنود يزوّدونهم بها مع الطعام، وما ترتّب على ذلك الإهمال من سلوكيات شاذة لاحقاً.

وربما من أكثر المقاربات التي قدّمتها الرواية تكمن في طلب الحكومة من الشعب الانضباط والهدوء وعدم الاختلاط، حرصاً من العدوى بالوباء التي لم تُعرف آلية انتقالها، لكنهم لم يلتزموا بالتعليمات فأصيبوا جميعهم، وهذا بالضبط ما يحصل اليوم مع كوفيد-19.