رواية (البلم) هوية الضياع نحو حلم الخلاص..

2018.10.08 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"إننا مجرد أوراق غادرت أغصانها وسلمت مصائرها للريح تلهو بها كيفما تشاء، وتودعها في رحلة أخيرة تنقلها إلى البعيد"

بمثل هذا التوصيف يوصلك الروائي محمد تركي الدعفيس إلى نهاية الحكاية، حكاية التشظي اللامنتهية طوال رحلة الهروب من الموت.

الملاحظ في الآونة الأخيرة أنّ السرد الروائي السوري قد غلب عليه التصاقه بالحدث، ومحاولة اختراق مآسيه؛ فقد اتجه أغلب الروائيين للكتابة عن المعاناة والحرب التي تعيشها سورية بعد الثورة؛ فالاستغراق بالتحدث عن تفاصيل ما يجري، ورصد العلاقات المتشعبة غير المستقرة؛ والتوغل في عوالمها وخصوصياتها جعل لطبيعة التكلّم عن الحدث السوري أهميّة كبيرة؛ من خلال إكساب هذا الحدث ميزةً خاصة؛ مفرطة بمكونها الاجتماعي الخاص. فمثلًا نعرف أن كثيرًا من الروايات العربية والعالمية عالجت فكرة الهجرة واللجوء عن طريق البحر إلى أوربا، كرواية (لا تقولي إنك خائفة) للإيطالي جوزبه كاتوتسيلا؛ أو رواية (كاماراد) للجزائري الصدّيق أحمد زيّوني؛ إلا أن خصوصية المشهد السوري في هذه الرحلة كانت مشغولة بتوجس مريب؛ والحلم بالبحث عن الخلاص بأي ثمن؛ وإن كان البحر إحدى الخيارات، وعليهم أن يعبروه، فإما أن يأخذهم لضفة الخلاص أو يبتلعهم، وينهي آلامهم. 

رواية (البلم) للروائي السوري محمد تركي دعيفس الصادرة عن دار ذات السلاسل 2018، هي رصد لمحاولة العبور إلى الضفة الأخرى حيث "الفردوس الموعود". يترك فيه السوريون بلادهم لبنادق الحرب التي أكلت أصواتهم، من دون أن يتوقف الموت ليوم واحد عن ممارسة مهمته بالتهام المئات من الأبرياء جراء القصف والطيران والكيماوي وكل أشكال الموت.

الرواية ترصد درب الشوك الملّغم بالمخاطر للمهاجرين السوريين، من ضفة تركيا إلى ضفة اليونان

الرواية ترصد درب الشوك الملّغم بالمخاطر للمهاجرين السوريين، من ضفة تركيا إلى ضفة اليونان في لجج بحرٍ لا يرحم لمن تزلّ قدمَه، أولئك الذين بنوا أحلامًا وطموحات على أمل إكمال الطريق إلى الأمل المنشود في أوربا.. لكن هذا الحلم ينكفئ بيد مسعرّة تتحكم بمصير هؤلاء الحالمين على يد مهربي البشر، فمشاهد المتاجرة بهم واستغلالهم غير الإنساني؛ كنومهم بالمئات في شوارع أزمير، والابتزاز المالي الذي كان يلحقهم هم وعائلاتهم من قبل مافيات الشوارع؛ والملاحقات الأمنية لدوريات الجندرما التركية لهم، كل ذلك كان وجهًا من أوجه السعير والشتات التي رسمت أبعادها في يومياتهم نحو الحلم.

يحاول الفارون من الجحيم الوصول إلى الأمان عبر مراكب الموت المسماة بالبلم، لكن يمرون بأهوال ومخاطر كبيرة كادت تودي بحياتهم.؟ كهذا الوصف (امــتــدت ذراعــــا رضــــوان وذراعـــــي؛ ونريد الإمساك بها وبالصغيرة.. سمعت صوت قدميها ترفسان الماء كدجاجة حزت سكين بعضا من عنقها لكنها فرت قبل أن يكتمل جزّ عنقها تتلوى مقاومة الموت ، فترتفع قليلا ثم سرعان ما تهوي،  مسحوبة نحو الأسفل بعدما تحولت البطانية التي كانت تغمر بها الصغيرة، والتي تشربت الماء حتى أقصى طاقتها، إلى ثقل إضافي يسحبها نحو الأعماق) ص 83.

بقي الكاتب يراوح بين الحدث الواقعيّ والسرد الرشيق الذي لا يوجد به أي تشتت طوال الرواية؛ ممسكًا بتلابيب القصة بكل اقتدار، فكان الراوي هو البطل الأبرز الذي ينتقل بين شخصيات الرواية، فيكشف عن أسرارها وذكرياتها، ويصوّر لنا كيف تحوّلت إلى مجرد أوراق يلهو بها المهربون، وتلعب بها الدول وفقاً لمصالحها وسياساتها.

فساعة ينقلنا إلى التوقعات السياسية لـ (عمّار) الشاب الأعمى صاحب البصيرة؛ فيُطمئن بها المحيط المتوجس من المستقبل؛ ويستمع الجميع إلى تحليلاته؛ فيخفف عنهم هواجسهم.

وتارة ينقلنا إلى (همام) الشاب الهارب نحو حلم موتور لا يكف الحديث عنه. وتارة إلى مشاحنات (رضوان) وزوجته (سميحة) ومشاكلهُما التافهة؛ وخوفهُما على ابنتهما التي أصابها المرض في الطريق.

عندما يحين موعد المخاض، ويصل الحالمون إلى شاطئ اليونان؛ ويظنون أنهم لامسوا حلمهم يصطدمون بجدران عازلة

كل ذلك نتتبعه من خلال سرد الراوي للأحداث بجمل متقطعة وسريعة، وعندما يحين موعد المخاض، ويصل الحالمون إلى شاطئ اليونان؛ ويظنون أنهم لامسوا حلمهم يصطدمون بجدران عازلة تمنعهم من مواصلة الرحلة، وتوقفُ تدفقُهم إلى الشمال، وتحتجزهم خلفها مثل حيوانات السيرك بعد بناء الجدار الفاصل بين اليونان وهنغاريا ومقدونيا والدول التي يمر من خلالها الهاربون نحو دول اللجوء المعروفة.

فيضطر بعضهم للبقاء حيث هم، والعمل أو الـتأقلم على حياة (أثينا) الصعبة كما فعل همام حين بدأ العمل كرسام للوجوه في شوارع أثينا، ومنهم من عاد لسوريا، بعد كل هذه المخاطر التي عاشها على الدرب مثلما فعل سعيد مع أسرته، وبعضهم اضطر للنصب على الآخرين .أما نجاح فكادت أن تمتهن الدعارة لولا أنْ أنقذها همام في أول طريقها، ووفّر لها عملًا كريمًا. 

حاول الكاتب بهذا الجزء من الرواية أن يواجه المصير المأساوي الذي ألمّ بهم  بالسخرية والهروب ليس فقط من الحرب بل حتى من الواقع التعيس الذي يعيشونه، بعد فقدان الأمل وموت الأحلام في الفردوس الموعود.

وعلى هذا المنوال تنتهي الرواية بوعودٍ خلاّبة للدول المستضيفة بالنظر بحالتهم، والعمل على إيجاد حل لهم.

الرواية أرادت أن توصل فكرةً مهمة غير موضوع المعاناة التي عاشها السوري ويعيشها في سوريا وخارجها، الفكرة التي حملتها الرواية هي أن المهاجر عبارة عن سلعة عند هذه الدول تقايضها من أجل مصالحها من دون أي اعتبار لإنسانية هؤلاء المشردين وكرامتهم. . .