رهان سوريا في قوتها الشابة

2019.01.19 | 23:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تتوالى أخبار صرخات الغضب من داخل سوريا مؤكدةً بأن البركان لم يخمد بعد، ولم يلفظ كل ما في جوفه من حممٍ ومُهْلٍ. من رجل يحاول الانتحار في مدينة مصياف، إلى آخر يخاطب الرئيس من مدينة جبلة مهدداً بالانتحار إن لم تتحسن الأوضاع المعيشيّة. من كتابات على الجدران ضد النظام وعرابيّ المصالحات معه في درعا، أو مدرّس يشتم الرئيس على الملأ في محاضرة له في جامعة تشرين، إلى جندي مقعد من ضحايا الحرب يعلنها جهاراً:"عاشت سوريا ويسقط الأسد".

العنوان الأبرز، وليس الوحيد، لهذه الصرخات هو المعاناة المعيشيّة الناتجة عن انهيار الاقتصاد السوري، وعجز الحكومة عن تلبية أبسط متطلبات العيش الكريم بعد اتساع رقعة المساحة التي تسيطر عليها. وتتضاعف حدّة هذه الصرخات نتيجة تعمّق الشرخ الطبقي واستكلاب فئة تجار الحروب ومافيات المنفعة المتبادلة، التي أخذت تكثّف من سرقاتها وفسادها العلنيّ، لشعورها بدنو أجل المعارك التي ستجفف، بطبيّعة الحال، مصادر تمويلها.  

عابت أصوات أخرى على تلك الصرخات خجلها وتلكؤها في المنادات جهاراً بإسقاط النظام

تلقفت العديد من القوى والأصوات المعارضة تلك الصرخات بكثيرٍ من الشماتة والاستهزاء، فالبعض لم ينظر إليها سوى كونها "تنفيسة" مكشوفة تقوم بها أجهزة الأمن من حين لآخر، لتلميع صورة الرئيس وتجميلها؛ وآخرون، اعتبروها نتيجة طبيعيّة لوقوف هؤلاء في صف النظام وعدم رفع الصوت في ساعة الحقيقة، عندما انتفض أقرانهم مطالبين بالحرية والكرامة في عام 2011؛ بينما عابت أصوات أخرى على تلك الصرخات خجلها وتلكؤها في المناداة جهاراً بإسقاط النظام. إن المقاربة الأوليّة لهذه المواقف تدفع المراقب إلى الإقرار بمنطقيّة هذه الآراء وأحقيّة طروحاتها، فالجرح الغائر الذي تركته الحرب في الضمير والجسد السوري تجعل من المفاجىء أن لا تكون مواقف معظم القوى المعارضة على هذا النحو. ولكن ألم تَحنْ ساعة المراجعات الكبرى التي يمكن لها أن تحطّم جليد هذا الانسداد السياسيّ/الاجتماعيّ في سوريا، في لحظة انكسار ثوريّة عامة في المنطقة العربيّة، لا بل وتصدّر قوى الثورة المضادة المشهد وتسيّده؟

المراجعات الكبرى تحتاج إلى رجالٍ كبار، يتسامون على ذواتهم، وينعتقون من انتماءاتهم الضيّقة ومصالحهم الإيديولوجية لصالح بناء مشروع وطني جامع. هذا ما لم نجده في معظم شخصيات وقوى الصف الأول من المعارضة السورية، التي تصدّرت المشهد طوال السنين الماضية. فمعظم ما صدر عن هؤلاء مؤخراً لا يَعْدُ كونه تبريرات بكائية، تعلّق أسباب فشلهم على شماعة اللعبة الإقليميّة/الدوليّة وتشابك مصالح أطرافها في سوريا. لم يقدّم هؤلاء مقاربة نقديّة عميقة لذواتهم أولاً، وللمؤسسات وآليات العمل السياسيّ التي حكمتهم طوال الفترة الماضية ثانياً. فلم يقتربوا إطلاقاً من مقارباتهم السياسيّة للقضيّة السوريّة، المقاربة الطائفيّة على وجه التحديد، والتي مزّقت النسيج الاجتماعيّ السوريّ المهشّم أصلاً. فإن كان النظام السوريّ يعمل على مدار عقود من الزمن كعرّاب هويّات وانتماءات، ومستثمر في إدارة الطائفيّة والخوف من الآخر؛ فإن أطيافاً واسعةً من قوى المعارضة انحدرت إلى أدنى المستويات من الطائفيّة والشعبويّة المقيتة، فقدت على إثرها معظم رصيدها المعنويّ والأخلاقيّ. 

لذلك، إن كان من بارقةِ أملٍ في تحطيم جليد هذا الانسداد السياسيّ/الاجتماعيّ، فإنّ شرارتها لن تومض على أيديّ تلك القوى المعارِضة البائسة؛ وإنما من خلال القوّة الشابة السوريّة، التي انخرطت بكل طاقتها وجوارحها في العمل الثوري. وأزعم بأن هذه القوّة الشابّة تستطيع، بما تملكه من حسٍ عالٍ بالمسؤولية وانتماء صادق لسوريا الوطن، أن تتجاوز ذواتها وجراحها الغائرة وتتطلّع نحو المستقبل، مستنيرةً بتجارب الماضي وخيباته.

من المفيد النظر إلى هذه الإشارات الغاضبة بموضوعيّة وبعينين مفتوحتين

قد لا تتجاوز ارتدادات صرخات الغضب الحالية القادمة من الداخل السوري حدود الغضب الفردي، وغالباً لن تسمح لها السياقات الراهنة بالتطور لتنتج فعلاً احتجاجيّاً جماعيا منظّماً. فغياب الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وإقفال الحيّزين الواقعيّ والافتراضيّ في وجه أي فواعل سياسيّة/ اجتماعيّة، سيعقّد مهمّة انتظام مشاعر الظلم الفردية في قالب جماعيّ. إلّا أنه من المفيد النظر إلى هذه الإشارات الغاضبة بموضوعيّة وبعينين مفتوحتين. كيف سيكون موقف من مشى عارياً في شوارع اللاذقيّة، أو من انتحر أو حاول الانتحار أو هدّد به، أو غيرهم من أصحاب الصرخات المكتومة اليائسة التي قد لا تجد طريقها بسهولة للإعلام؛ كيف سيكون موقفها من مشروع وطني سوريّ، يحقق العدالة والكرامة والمساواة، ويستوعب جميع الفئات والقوى السوريّة، ويحلّ مكان هذه المنظومة الفاسدة المتعفنّة؟ الجدير بنا التمعّن في هذا التساؤل قبل الاستسهال في إطلاق الأحكام المسبّقة، والتفكّر في رمزية تلك الأفعال الاحتجاجيّة ضمن سياقاتها الراهنة. 

إنّ نجاح القوّة الشابة المعارضة في استعادة زمام المبادرة الوطنيّة، مرتبط بمدى قدرتها على توسيع حدقة مجهرها وانفتاحها على نظيراتها في الداخل السوريّ، والاستثمار فيها ومعها. فالبرغم من انسداد أفق العمل السياسيّ والمجتمعيّ، إلا أن جزءاً من القوّة الشابة الحيّة في سوريا تعمل جاهدةً، ولو بصمت وعلى نطاقاتٍ محدودة، على القيام بمراجعات هامّة تصبو من خلالها إلى خلخلة الكثير من البُنى المقدّسة، سياسيّةً كانت أم اجتماعيّة، محاولةً نشر ثقافة ووعي مواطنيّ يتجاوز كلَّ انتماء ضيق أو مصلحة محدودة. إنّ بناء جسور الثقة والتواصل بين هذه القوى الشابة السورية، التي تتقاطع أكثر بكثير مما تتباين في رؤاها وتطلعاتها، يمكن أن يكوّن اللبنة الأولى للنهوض بالوطن السوري وتعافيه.

قد يتراءى للقارىء أنّ هذا الطرح لا يَعْدُ كونه أفكاراً حالمةً لا واقعيّة؛ إلا أن ثمان سنوات لا تشكل إلا لحظة في تاريخ الأمم، وإن الشعوب التي نهضت بعد الزلازل المدمّرة لم تبنَ إلا بطاقات وهمم أبنائها جميعاً.