رمضان الثورة الثاني.. حلب بين مدينتين

2020.02.03 | 23:12 دمشق

whatsapp_image_2019-05-22_at_10.34.43_am.jpeg
+A
حجم الخط
-A

تُعتبر مدينة حلب العاصمة الاقتصادية لـ سوريا وأكبر مدن الشمال السوري، كما تشكل ثاني أكبر مدينة في البلاد بعد العاصمة دمشق من حيث عدد السكان، حيث بلغ تعداد سكانها مطلع الثورة نحواً من 2,3 مليون نسمة،  وهو العدد الذي جاوز 2,5 مليون نسمة في عام 2012 بسبب حركة النزوح إلى المدينة من أريافها ومن محافظتي حماة وحمص، والتي كانت تشهد جميعها معارك تحرُّرها.

ولأن دخول الثوار إلى المدينة تزامن مع شهر رمضان المبارك فقد دخلَت المدينة في حالة مأساوية، مع إغلاق أكثر الأسواق الرئيسية فيها، والذي شمل توقف جل أفران الخبز عن العمل، خاصة في الأحياء الشرقية التي دخلها الثوار، وزاد من صعوبة الحال حركة النزوح من الأحياء الشرقية التي تضم أكثر سكان المدينة، بسبب الاشتباكات والقصف المركز عليها بقذائف الهاون ومدفعية نظام الأسد الثقيلة، بل وحتى الطيران المروحي.

الإفطار الحلال

بالنسبة إليّ -كأيّ شخص مدخِّن يُقدِّس القهوة صباحاً مع سيجارة اليوم الأولى- كان الصيام مشكلة حقيقية، فقد اعتدتُ أن أعيش شهر رمضان كائناً ليليّاً، ينام بعد صلاة الظهر ويستيقظ قبل صلاة المغرب للّحاق بالعصر، ومن ثم الإفطار على فنجان قهوة مع "سيجارة"!

لكن دخول الثوار إلى المدينة والحاجة إلى إعلام محلي يغطي أيام التحرير الأولى، دفعَنا في المكتب الإعلامي لتنسيقية جامعة الثورة إلى التنقل بين قسمَي المدينة طوال شهر رمضان لتوثيق تلك الفترة، وهو ما تطلب أنْ نقضي يومنا منذ ساعات الصباح الأولى وحتى انتصاف الليل في جولة ضمن الأحياء المحررة، نصوِّر فيها ما استطعنا، قبل أنْ نعود آخر الليل إلى منزلنا في حي المارتيني في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لتحميل المقاطع التي صوّرناها وإرسالها إلى القنوات الإعلامية.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب: تشكل الإعلام المحلي في حلب بعد التحرير

في اليوم الأول لتلك الجولة التي كنتُ أقضيها ماشياً على قدمي أفطرتُ على شربة ماء وحبات تمر من كتيبة مرابطة في الصاخور من أبناء الحي، وهو ما تركَني في حالةِ إرهاق منعتني من تكرار الجولة في اليوم التالي، لأقرِّر في ثالث الأيام أنّ الإفطار أوجب بالنسبة إلي، وهكذا قبل الخروج من المارتيني أفطرتُ على فنجان قهوة صباحي وانطلقتُ في جولتي نفسها.

أما في اليوم الرابع وعندما لم أجد قهوة في منزلنا، ومع إغلاق المحلات كعادتها في صباحات شهر رمضان في المدينة المحافظة، توجهتُ إلى أحد المقاهي القليلة التي تفتح أبوابها في هذا الشهر، وذلك في حي العزيزية ذي الأغلبية من الطائفة المسيحية، وهناك تناولت فنجان قهوتي قرب طاولة جلس عليها بعض أبناء وبنات الحي، الذين لم أستطع منع نفسي من الاستماع إلى نقاشهم المحموم حول دخول الجيش الحر وتخوفهم من "أبناء الريف"، بل إنّ أحدهم تحدث باستفاضة عن "المتطرفين" الذين سيفرضون "الجزية" على المسيحيين إذا سيطروا على حلب!

كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها هذا المصطلح، وربما المرة الأولى التي أدرك فيها أنّ الانقسام المكانيّ بين الأحياء ليس الانقسام الوحيد الذي طال هذه المدينة، بل لعلّه أبسط أنواع الانقسام الذي تعيشه البلاد، وهو ما بات واقعاً لا يمكن إغفاله في الأعوام اللاحقة، ولسخرية الأيام فقد تحقّقَت نبوءة ذاك الشاب التي وجدتُها سخيفة آنذاك، وظهرَت في سوريا من أبنائها تنظيمات متطرفة فرضت الجزية واقعاً في بعض مناطقها!

توجهتُ يومها من العزيزية إلى الفيض مستقلاًّ سيارة أجرة، ومن الفيض إلى حي المشارقة فالأحياء المحررة انطلاقاً من حي بستان القصر، والذي كانت جموع الأهالي تخرج منه حاملة ما استطاعت من متاع باتجاه الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام هرباً من القصف.

أما في الأحياء المحررة فقد كان الأهالي الباقون في منازلهم يحاولون تأمين قوت يومهم بشق الأنفس، وبات شائعاً فيها مشهد طوابير الخبز أمام الأفران القليلة العاملة في القسم المحرر، وأصبحَت التنسيقيات التي كانت تعمل سراً في السابق، تتّخذ من بعض المحال والمدارس مقرات لها فعّلَت فيها مكاتب إغاثية تحاول سدّ الحاجة الكبيرة للأهالي، موزِّعة عليهم ما استطاعَت من مواد غذائية، بينما أنشأَت بعض الكتائب مطابخ ميدانية بسيطة لإطعام مقاتليها، وبالنسبة إلينا نحن "المقاطيع" غير المنتمين لفصيل أو ممّن لا يملكون منازل أو عوائل في المدينة يؤوون إليها، فقد كان تأمين الطعام مشكلة كل يوم، ومع الإغلاق الكامل للمطاعم في المناطق المحررة، أصبحنا نؤمّن طعامنا بالتطفّل على مقر عسكري أو منزل لمقاتل من أبناء المدينة يقاسمنا فيه ما يملك، لكنّ هذا لم يكن دائماً متاحاً!

مطعم باباي في الموغمبو

مع انتصاف شهر رمضان تخلَّيْنا عن التنقّل اليومي بين قسمي المدينة، خاصة بعد تسيير النظام لبعض الدوريات الليلية في الأحياء القريبة من المناطق المحررة، فبِتْنا نقضي بعض الأيام في المناطق المحررة في أي مكان يفتح لنا أبوابه، وبعضها الآخر في منزلنا بحي المارتيني، والذي ضربَت مطبخه في إحدى الليالي التي قضيناها فيه قذيفة دبابة لم تنفجر لحسن حظّنا، والتي يبدو أنّ مدفعية النظام أخطأَت فيها المناطق المحررة كما فعلَت كثيراً تلك الفترة، وانحصر تنقّلنا بين القسمين في ساعات الصباح تجنباً للحواجز والدوريات، لكنّ ما يمنعه الحذر يقضي به الجوع! لذلك وفي الساعة الثانية بعد منتصف ليل أحد أيام رمضان والتي كان من المفترض أنْ نقضيها في المكتب الإعلامي حديث الإنشاء في حي بستان القصر، وعندما لم نجد ما نأكله، وبعد أكثر من ساعة بالغ فيها صديق بوصف أطايب الطعام من بعض مطاعم حلب المعروفة، ذاكراً بينها وجبة "الهمبرغر" عند محل "باباي" الشهير في "حي الموغمبو"، والذي كنتُ أعلم أنه يُبقِي أبوابه مفتوحة في شهر رمضان حتى أذان الفجر، انطلقتُ من حي بستان القصر قريباً من جامع حذيفة باتجاه حي المشارقة، ومنه إلى حيّ الفيض فالميرديان ومن ثم المارتيني إلى ساحة الجامعة، منعطفاً منها يميناً باتجاه دوار عمر أبو ريشة، ومنه يساراً باتجاه فندق "بولمان الشهباء"، الذي انعطفتُ منه يميناً إلى جامع الروضة في حي الموغمبو، ومنه إلى مطعم باباي قرب "نيومول"، متجنباً المشي في شوارع رئيسية قدر المستطاع.

وكما توقعتُ كان المطعم مفتوحاً يغصُّ بمن حرّكهم الجوع، طلبتُ 4 وجبات مع المشاريب، وجلستُ أنتظر دوري على رصيف المدرسة قبالة المطعم أراقب رواده:

"شلّة" مراهقين من أبناء الحي على ما يبدو.. رجل خمسينيّ طلب عدّة وجبات لأهله الذين جمعهم في سيارة سوزوكي ركنها قربي قبالة المطعم، حيث استطعتُ أن أفهم من حديثهم أنهم نزحوا ذاك اليوم من منزلهم في حي الشعار.. فتاة ثلاثينية طلبَت وجبات لصديقاتها اللاتي ينتظِرنَها في سيارة "كيا ريو" قريبة، وأظنّ أنهنّ كنّ من قاطني منطقة قريبة.. ودورية لعناصر من أحد فروع النظام الأمنية ينتظرون أحد رفاقهم في سيارة "ستيشن".. و"د.حمزة الخطيب" أحد شباب شلّتنا ورفيق رحلتنا إلى ريف حلب الشمالي قبل دخول الجيش الحر إلى المدينة، والذي فاجأني وجوده في المطعم، خاصة وأنه كان قد أسّس نقطة طبية في حي الإذاعة منذ دخول الجيش الحر إلى المدينة، لأعرف منه أنه جاء ليطلب وجبات لمتطوّعي النقطة الطبية الجائعين كحالنا.

انتهى طلب حمزة قبل طلبي فسبقني باتجاه حي سيف الدولة الذي سيعبر منه إلى حي صلاح الدين فالإذاعة ومن ثم النقطة الطبية، أما أنا فقد عدتُ أدراجي من نفس الطريق التي جئتُ منها.. حتى حي بستان القصر إلى المكتب الإعلامي.

لتكون تلك الليلة هي الوقت الذي قرّرتُ فيه الانتقال الكامل إلى السكن في الأحياء المحررة، وهو ما لم يكن ممكناً دون بعض الترتيبات.
لكنّ تلك قصة أخرى.

كلمات مفتاحية