رسائل باسل شحادة إلينا

2020.06.02 | 00:06 دمشق

182852_10151142264109017_1498090189_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

مرّت قبل أيام الذكرى الثامنة لاستشهاد باسل شحادة (1984-2012)، وأعادت الذكرى فيلمه "أغاني الحرية" إلى الانتشار على مواقع التواصل. الفيلم الذي أخرجه باسل بعد مضيّ ثمانية أشهر على انطلاق الثورة السورية، يستحقّ الوقوف عنده من جديد، بتمعُّنٍ وتفكُّر، لما فيه من رسائل في غاية الأهمية.

ما يُدهشك عند مشاهدة فيلم "أغاني الحرية" اليوم، هو أن الخيارات التي كانت مطروحة أمام الثورة بين السلمية أو العنف، وبين الوطنية أو الأَسْلَمَة، كانت واضحة النتائج منذ الأشهر الأولى. كما أن خيارات النظام وخطّته المتوقّعة لقمع الثورة وحرفها عن غايتها، وإنقاذ نفسه من السقوط في النهاية، كانت أيضاً واضحة ومعروفة. فلماذا إذاً سارت الثورةُ وفقَ الخطّة التي رسمها النظامُ لها؟ وهل كان قادةُ الثورة -من سياسيّين وعسكريين وإعلاميين وناشطين وحكماء- يعرفون أنهم يُنقذون النظام عبر "محاربته" بهذه الصيغة والنوعيّة من "المحاربة"؟!

شارك في الفيلم باحثون أكاديميُّون على مستوى عالٍ، من المعروفين بمواقفهم الداعمة للقضايا العربية، وعلى رأسهم المفكّر الكبير نعوم تشومسكي. تشومسكي الذي رفضَ أن يضع نفسه في موضع من يُنظّر على السوريين، قال بتواضعٍ جمّ: "بشكلٍ عام، اللا عنف هو الطريقة المفضّلة لأي شخص جدّي". وأضاف بعد إشادته بشجاعة المتظاهرين السوريين وجسارتهم "إنّ متابعة العمل بشكلٍ سلميّ سيكون الأسلوب الأفضل، لجمع المزيد من الدعم الدولي، ولتقويض قوات القمع العنيفة نفسها".

أما الباحثة إيريكا شينويث صاحبة كتاب "لماذا تنجح المقاومة المدنية: المنطق الاستراتيجي للنزاع اللاعنفي"، فقالت إنّ "نتائج الحركات السلمية مذهلة"، وإنها "أكثر فاعلية ونجاحاً بمرّتين من تلك التي تلجأ إلى العنف من أجل التخلُّص من ديكتاتور أو تحرير الأرض من الاحتلال". وأضافت الباحثة أن هنالك فروقاتٍ مهمة بين المجتمعات التي تلجأ إلى الوسائل السلمية مقارنةً بالمجتمعات التي تلجأ إلى الطرق العنفيّة، فتمتاز الأولى بأنها "في الغالب تخرج من الصراع مجتمعاتٍ ديمقراطية"، وأنّ "احتمال الوقوع في خطر الحرب الأهلية ضئيل"، وأنّ "عدد الضحايا المدنيين في هذه الحالة سيكون أقلّ بكثير".

كما حذّرت الباحثة شينويث الناشطين السوريين من الوقوع في ثلاثة أفخُخ، الأول هو الاعتقاد بالنجاح الفوري وأن عدم النجاح يعني نهاية الحراك لا محالة. الفخّ الثاني هو الاعتقاد بأن الحراك يراوح في المكان، وبالتالي يجب تصعيد الأساليب إلى العنف. فهي ترى -بعد أبحاث طويلة- أنّ "وجود جناح عسكري لا يساعد الحراك حقاً، بل يساهم في تخفيض عدد المشاركين فيه، وهذا ما قد يشكّل مقتلاً". الفخّ الثالث هو تعميق الخلافات والانقسامات الموجودة في المجتمع أو السماح للنظام بفعل ذلك. كانت شينويث ترى منذ الأشهر الأول للثورة أن استراتيجية النظام لقمع الثورة وإنقاذ نفسه تقوم على ثلاثة ركائز، الأولى هي دفعُ الثائرين إلى استخدام العنف ضد رجال الأمن، واستفزازهم لرفع السلاح ضد النظام. الثانية هي تعميق الخلافات بين مكوّنات المجتمع التي يوجد بينها بعضُ التوتُّر في الأصل، "بحيث يصبح من المستحيل للمسيحيين والعلويين والمسلمين السنّة وبقية المكوّنات أن يجتمعوا على كلمة واحدة". الركيزة الثالثة هي "إرهاب الناس" لأن النظام لن يستطيع أن يقمعهم إلى الأبد، فلا بدَّ له من ترهيبهم عبرَ ارتكاب مجازر شنيعة وقذرة، وجعلهم يعرفون أنه هو الذي يقف وراءها، لكي يرتدعوا ويمتنعوا عن المشاركة في الثورة.

نتساءل بعد مشاهدة الفيلم من جديد: لماذا سارت الثورة وفقَ الخطة التي رسمها النظامُ لها؟ ومَن ساهمَ في انتقالها من السلمية إلى العمل المسلّح؟ مَن موَّل أولى الكتائب؟ وهل كانت غايتُه إسقاط النظام فعلاً؟ أم توظيف الثورة وأهلها كورقةِ ضغطٍ وأداةٍ في الصراع الإقليمي الطائفي بين إيران والخليج؟ مَن ساهم في صنع خرافة "الجيش الحرّ المشكّل من ضبّاط وجنود منشقّين"، بينما جلسَ الضباطُ في المخيّمات التركية ممنوعين من الانخراط في الثورة، وحلَّ محلَّهم مدنيُّون مسلّحون مع جهاديين أجانب؟!

ثمّ كيف لبعضٍ من قادة الائتلاف أنْ يدافعوا عن "جبهة النصرة" بوصفها شريكتهم وجزءاً أساسياً من الثورة، وهي المرتبطة بتنظيم القاعدة جهاراً ونهاراً؟ وهل ثمة أُمّيّة سياسيّة تفوقُ ذلك؟! فمَنْ يربط نفسَه بورقةٍ محروقة فسوف يحترق معها دون شكّ. والغريبُ المريبُ في أمر "جبهة النصرة" أنها كانت مجرّد اسم استخدمه إعلام النظام، ونسبَ إليه مسؤولية التفجيرات التي وقعتْ في دمشق، قبل أن يكون هنالك وجود للجبهة على الأرض. ثم بعد بضعة أشهر، تأسّست الجبهةُ حقاً (التأسيس الفعلي في تموز 2012)، واختار قادتُها نفسَ الاسم الذي اختارتْه المخابراتُ لهم.

وفي الشهر الأول من عام 2014، ذهبَ وفد المعارضة إلى جنيف في جولة التفاوض الأهمّ في تاريخ الثورة. قبل ذلك، تمّ تأسيس ما سُمّي "الجبهة الإسلامية"، وأغلبُ قادتها من الجهاديين الذين استخدمهم النظام في العراق بين عاميّ 2003 و2008، ثم أخرجهم من سجن صيدنايا بالعفو الشهير في أيار 2011. كانت "الجبهة الإسلامية" (السلفية الجهادية) هي ورقة الوفد المعارض التي يقارعون بها النظام في ملفّ مكافحة الإرهاب، والمقصود بالإرهاب هو "داعش". لكنْ في الحقيقة لا يوجد أي فارق أيديولوجي بين "داعش" و"الجبهة الإسلامية" بحسب ما يشهد بيانُ تأسيسها، فهل كان وفدُ المعارضة يظنُّ بأنه يضحك على العالم؟!

كنتُ قد التقيتُ الشهيد باسل شحادة مرةً واحدة في دمشق، قُبيل رحلته الأخيرة إلى حمص. يومها كان يحدّثنا عن رحلته بالدراجة الهوائية من دمشق إلى حلب وبالعكس، وعن رحلته الشيّقة على متن دراجة نارية من سوريا إلى تركيا فإيران ثم باكستان وصولاً إلى الهند، وعن خوف والدته عليه، وطمأنته لها بقوله إنه "لا يموت". ثم جاء خبرُ استشهاده في حمص بعد أيام، ووقع كالصاعقة علينا. يومها تمركزت قواتُ الأمن عند مداخل حيّ القصّاع، وضربتْ طوقاً حول بيت أهله، لتمنع أصدقاءَه من تأدية واجب العزاء. كان النظام يعرف أنّ عزاء باسل سوف يتحول إلى مظاهرة في قلب دمشق.

وبالعودة إلى فيلم باسل ورسائله، ففيه يقولُ الباحث نورمان فينكستاين: "ثمة فرصةٌ سانحة لتحرير المنطقة العربية من هذا الثقل المميت الذي تعاني منه منذ مئة سنة. الفُرَصُ في السياسة تأتي وتذهب، فإذا أضعتَـها.. فقد تضطرّ إلى الانتظار طويلاً.. حتى تسنح مرة أخرى".