رحيل حسن الحفّار .. ودروس الكبار للصّغار؟

2020.03.26 | 23:31 دمشق

snacksyrian.com-alhfar.jpg
+A
حجم الخط
-A

"إنّ الصّوت الجميل يسرقك من نفسك ويعيدك إليك، يأخذك ويردّك"

كأنّ أبا حيّان التّوحيدي قال عبارته هذه بعد أن حضر إحدى حفلات حسن الحفّار فاخترقت "سبعاويّةٌ" شغاف قلب التّوحيديّ فسرقته من نفسه، وسرعان ما أعاده "موشّحٌ" و"دور" حفّاريّ إليها، ثمّ أخذه "موّال" إلى حيثُ الغياب وردّه.

حينَ يوحّد الصّوت الجميلُ المتقاتلين

لم يتّفق السّوريّون مؤيّدين ومعارضين، ثوّارًا وموالاة؛ منذ عشر سنواتٍ على شخصيّة راحلة كما اتّفقوا على حسن الحفّار.

فما إن أعلن خبر وفاة الفنّان الفذّ والمنشد النّادر حسن الحفّار يوم الإثنين 23/3/2020م حتّى سارع الجميع في مناطق النّظام ومناطق الثّورة ومَهَاجِر الأرض إلى نعي الحفّار، وإعلان الحزن على وفاته التي لم تكن وفاة منشد عابرٍ بل وفاة قطعةٍ من تاريخٍ متجذّر، وبدفنه دُفن أحد أسوار القلعة الشّامخة؛ قلعة حلب التي تربّى الحفّار على كتفها فألبَسَها صوتَه البديع.

لم يكن حسن الحفّار من المعارضة، لكنّه بالتّأكيد لم يكن من مؤيّدي الأسد أو داعميه، وبوفاته تتكشّفُ مجدَّدًا خطورة القسمة الثّنائيّة التي يعمدُ إليها بعض المندفعين بتقسيم النّاس إلى قسمين فقط؛ المؤيّدين للنّظام والثّائرين عليه؛ واعتبار كلّ من بقي في مناطق سيطرة النّظام مؤيّدًا له بناء على هذه القسمة المراهقة.

وفاةُ حسن الحفّار تكشفُ لبعض مراهقي السّياسة من النّاشطين أنَّ التّعامل مع المقيمين في مناطق النّظام بوصفهم جزءًا منه أضرّ بالثّورة من جهة وجعل الكثيرين في مناطق النّظام يذوقون الظلم مضاعفًا من النّظام ومعارضيه على حدّ سواء.

كما تكشف كم كانت الثّورة بحاجة إلى خطاب راشد يتوجّه للمقيمين في تلكم المناطق ويخاطبهم ويذود لهم ويذود عنهم.

الأُمّيّ البليغ والدّبلوماسيّ الذي حفظ نفسه

حسن الحفّار أميّ لم يدخل مدرسةً ولم يتعلّم الكتابة وبالكاد يعرِف قسطًا يسيرًا من القراءة، ومع ذلك فهو يحفظ مئات القصائد وآلاف أبيات الشّعر ويؤدّيها بفصاحةٍ كبيرة؛ فلا تجدُ له لحنًا في اللّغة أو غلطًا في اللّفظ أو كسرًا في الوزن في دليلٍ واضحٍ على أنّه رجلٌ سكنته الفطرة اللغويّة باكرًا وصقلته البلاغة منذ نعومة أظفاره ويجري الفنّ الرّاقي والذّوق اللغوي والفنيّ منه مجرى الدّم.

هذا الأميّ الذي له أكثر من أربعمئة شريط كاسيت وآلاف الحفلات من الإنشاد والفنّ والطّرب الأصيل على مدار أكثر من خمسين سنة يمثّل مدرسةً في المقامات الموسيقيّة وقواعد الطرب الأصيل يستحقّ أن يثني كثيرٌ من الأكاديميّين الموسيقيّين أمامه الرُّكَب، فما بالك بكثيرٍ من المنشدين الذين تزبّبوا قبلَ أن يتحصرموا؟

وبقدرِ براعته الموسيقيّة ؛كان هذا الأميّ دبلوماسيًّا يحسن التّخلّص بل يحسن إيصال الرّسائل القاسية بلغةٍ دمثةٍ سهلة؛ ففي لقاءٍ إعلاميّ قبل حوالي سنة كان اللّقاء الإعلاميّ الأخير له؛ حاول المُحاور استجرارَ الحفّار إلى الحديث بإيجابيّة عن نظام الأسد أو عن بعض المعاني التي تحمل المداهنة للإيرانيين الذي يسرحون ويمرحون في حلب بعد استعادة القسم المحرّر منها بقيادة الحرس الثّوري الإيراني.

فيسأله المُحاوِر: هل غنّيت لعليّ بن أبي طالب؟ فيجيبه بكلّ سلاسة بلهجته الحلبيّة: "نحنا بنحب سيدنا علي قبل كلّ العالم، وكمان غنّيت صدّيق راعي اللّوى شيخي وسيدي عمر"

وعندما سأله المُحاور عن سبب تغيّبه عن حفلات التّكريم رغم دعوته ورفضه أن يتمّ تكريمه فأجاب بكلّ هدوء: "أنا بحفظ كرامتي؛ بحفظ حالي"

ما أعمقها من كلمات وما أعظمه من معنى؛ فإنّ التّكريم من هذه العصابة التي لا تقدّر فنًّا ولا مواهب هو إهدارٌ للكرامة وإهانة للفنّ الأصيل.

وإنَّ التّكريم من هذا النّظام الذي صنع من مجموعة الأصوات النّشاز من طائفته رموزًا  وطنيّة وأصنامًا فنّيةً كأمثال علي الدّيك؛ هو تضييع للذّات ومحو للهويّة.

دمي معجون بحلب

يحاولُ المُحاور أن يجرّه للحديث عن الأمن والأمان في ظلّ النّظام فيسأله عن سبب بقائه في حلب رغم مغادرة الكثيرين لها؛ فيجيبه حسن الحفّار إجابة العاشق الهائم: "أنا دمي معجون بحلب"

يقول له المُحاورُ متودّدًا "صوت حسن حفّار قد القلعة"، يقصد قلعة حلب؛ فيردّ الحفّار مستنكرًا بسرعة "بلا قد القلعة بلا قد شي، القلعة كبيرة يا خاي مانّا قدّا"

وهذا الجواب ليس محض تواضع منه بل هو تعبيرٌ عن شعورٍ مستقرّ في أعماق النّفس بأنَّ هذه الأرض التي تمثّل قلعة حلب رمزها لا أحد يطاولُها ولا أحد أكبر منها؛ فالأوطان أكبر من كلّ شيءٍ وأكبر من كلّ أحد.

لكم ألقابكم ولي لقبي

"شيخ المنشدين" و"عميد المدّاحين" و "ملك الطّرب الحلبيّ" و"صنّاجة حلب" و"أم كلثوم حلب" كلّها ألقاب أطلقها المحبّون على حسن الحفّار.

لكنّه كان يرفض أن يلتصق به أيّ لقب له أيّ صفةٍ تكريميّة له، حتّى إنّه كان يرفض أن يقال له: الشّيخ حسن أو الأستاذ حسن فهو كما يقول: "حسن وبس بدون أي لقب" فقد كان يرى نفسه أقلّ من أن يحمل هذه الألقاب؛ إلّا لقبًا واحدًا كان يصرّ على أن يوصف به وأن يكون بطاقه تعريفه إلى النّاس وهو "مدّاح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم"

حسن الحفّار رجل متديّنٌ تديّنًا فطريًّا، تفيضُ كلماته وأناشيده بالمحبّة، ويخترق صوته شغاف القلب لا لحسنه فقط بل لأنّه معجون بروحه وقلبه النّابضين بالحبّ والشّوق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

زهد الحفّار بكلّ الألقاب وكان يرى نفسه أقلّ منها لكنّه كان يرى في مديحه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملًا له بالشّفاعة يوم اللقاء، ولعمري إنّ مشاعر التّديّن الفطريّ هذه يفقدها الكثيرون ممّن تبهرهم الأضواء وتعميهم الشّهرة فيتمحورون حول ذواتهم وينسون أنفسهم ويمارسون الطّغيان بثوب التديّن والتّواضع التكتيكيّ الذي يمثّل الوجه الثّاني للكبر والغرور.

معزوم عند سيدنا النبيّ

ليلة الإثنين 23/3/2020م يتّصل حسن الحفّار بابنه عمر طالبًا منه أن يبيت معه ليلته تلك؛ فيأتيه ولده ساعيًا على عجل.

ينظر الحفّار إلى ابنه وقال له: "يا عمر أنا معزوم عند سيدنا النّبي اليوم؛ معزوم اللّيلة على عرس فيه سيدنا الحسن والصّحابة وتأخرت عليهم كثير"

ثمّ قال له: "دير بالك على إخوتك وخبّرهم إنّي ما طعميتهم قرش حرام ولا دخّلت بطونهم قرش حرام"

حاول عمر تهدئة والده حتّى نام، وفي الثّانية فجرًا أيقظ حسن الحفّار ابنه عمر النّائم إلى جواره وطلب منه كأس ماء وبعد أن شرب قال له: "مدّاح النّبي ما بينضام" ثمّ بدأ يصلّي على النبيّ وهو ممسك بيد ابنه عمر لتفارق روحه جسده وهو يصلّي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وهكذا مات الحفّار على ما عاش عليه مشتاقًا إلى رسول الله صّلى الله عليه وسلّم، لم ينافق لطاغية، ولم يداهن لمستبدّ، ولم يبع صوته بثمن بخس، ولم يستخدم فنّه لأغراض دنيئة؛ فهلّا تعلّم الصّغار من رحيل الكبار دروسهم؟!