رحل "العم ميشيل" من أراني يوماً الطريق إلى الحرية

2021.04.21 | 06:26 دمشق

626767384-1024x576.jpeg
+A
حجم الخط
-A

قد يكتب كثيرون في المستقبل كل أنواع الاجتهادات النقدية والتقريضية في مواقف وسيرة ميشيل كيلو، أحد أبطال سوريا المناضلين والوطنيين الكبار الذي رحل عنا  بعد صراع مرير مع القاتل المعولم، فيروس كورونا. لن أفعل هذا لا هنا ولا في أي مكان آخر. ما أخطه بقلبي وذاكرتي، قبل أصابعي ونقراتها الحزينة على مفاتيح الكومبيوتر، هو شهادة شخصية وجدانية  للتاريخ عن شخصٍ عظيم مر في حياتي وترك بعضاً من عطرٍ لا يزول أبداً. شهادة عن "الخال أبو أيهم" أو "العم ميشيل" كما عرفته وناديته كل عمري وكما أودعه اليوم. عن معلمنا الكبير وصوتنا النضالي والثوري الحر الذي كنا نرى فيه أملاً بأن يبقى لنا حضور على خريطة هذا المشرق التعيس والقذر الذي يرحل أجمل ما فيه ويبقى وحوشه أحياء.

أستطيع أن أعود بالذاكرة عشرات السنين إلى الوراء في مسيرة معرفتي بالخال أبو أيهم. فهو ابن عمة والدي (عمتي غالية) وابن العائلة القريب من الجميع والذي يعرفه الجميع فيها من صغيرهم لكبيرهم والذي يعرف جميعهم بالاسم والسيرة. لا يرحل من ذاكرتي أبداً صورتي أنا الولد الصغير الذي لا يتجاوز طوله عشرات السنتمرات وهو يقف وينظر عالياً فوق رأسه بعيون فضولية متأملاً هذا الرجل ذو البنية الضخمة والصوت العميق الواثق والنبرة القوية والعالية والصارمة في كلامه الذي كان يزورنا في بيتنا حين كان يتردد على مدينة اللاذقية ليجلس مع والدي ويتبادلان أطراف الحديث في الشأن العام والسياسة، مع اختلاف آرائهما  وميولهما السياسية ولكن مع اتفاقهما معاً على مساوئ ومفاسد حال البلد والنظام. والدي الذي اختار "السترة" والصمت وممارسة المهنة وتأمين عيش وكرامة عائلته بهدوء وابتعاد كلي عن السياسة (التي انخرط فيها عروبياً وناصرياً من دون حدود في شبابه)، والعم ميشيل الذي لم يتوقف يوماً عن الانخراط حتى النخاع في الشأن العام والسياسة، والذي دفع أثمان وطنيته وثوريته الباهظة لسنوات طوال منذ تجرأ وقال "كي يرضى أبونا الذي في السموات" (عن الأسد الأب) وصولاً إلى "نعوات سورية"، المقالة التي لم يحتملها الأسد الابن وجهازه الأمني.

 

WhatsApp Image 2021-04-21 at 5.49.14 PM.jpeg

 

إن أنسى فلن أنسى ذاك اليوم المشؤوم في مطلع التسعينات حين فقدنا عمي الوحيد الذي توفي في دبي مصاباً بسرطان اللوكيميا. كان يوماً قاسياً وصادماً علينا جميعاً. أذكر حين عاد والدي من مطار دمشق إلى اللاذقية محضراً معه نعش أخيه، عمي فايز، إلى مثواه في مدينته الأم. يومها كان أبو أيهم مع والدي في تلك الرحلة ووصل معه إلى منزلنا. لن أنسى يومها حين اقترب مني وأنا أحاول أن أمسح دموعي المنهمرة من عيني وقال لي بصوته العميق والواثق: "لاتبكي يا خال. كون رجاّل".

تتوالى السنون ويستمر أبو أيهم في نضاله وثورويته التي لم تهتز ولم تحنها سنوات الاعتقال العديدة والمراقبة والتضييق، لا بل زادت وتيرة عمله المدني والسياسي والشعبي حدة وقوة ووضوحا وجرأة مع وصول ابن الطاغية إلى وراثة السلطة. يومها، في مطلع الألفية الجديدة، كنت قد بدأت رحلتي نحو الدراسات العليا في بريطانيا وكنت أزور سوريا في العطل والأعياد. في تلك الفترة، ومع إلقائه لخطاب تسلم الرئاسة، دعا بشار الأسد كل كتاب ومثـقفي سوريا لمساعدته في عملية إصلاح البلد والنظام وتسليط الضوء على ما يجب فعله للسير بسوريا نحو المستقبل، كما ادعى. يومها صدقنا جميعاً هذه الكذبة الكبيرة ورحنا نكتب ونحاول التعبير عن رأينا. كان أبو أيهم في طليعة الجميع ملهماً ومرشداً بتأسيسه وقيادته للجان إحياء المجتمع المدني ومن ثم لإعلان دمشق للتغيير الديمقراطي ومتابعته لنشر البيانات التاريخية مع رفاقه المثقفين والوطنيين السوريين واللبنانيين وعدم توقفه أبداً عن الكتابة والتعليم لأمثالي من الآلاف عما يحتاجه البلد كي يخرج من ماضيه الأسود وواقعه الكارثي. وكان كلما نزل إلى اللاذقية وعرف أنني موجود فيها أيضاً، وبرغم وقته الضيق ومشاغله وعشرات الناس الأكثر أهمية وقيمة الذين كان يلتقيهم، كان يتصل بي بمنتهى التواضع والاحتضان الأبوي ويتحدث إلي بمنتهى التشجيع والثـقة ويدعوني كي نلتقي ونتحدث. تكررت لقاءاتنا مابين أعوام 2003 و2009 في اللاذقية وفي منزله في دمشق، في مناسبات قليلة جداً كنت أزور فيها المدينة التي لم أشعر فيها يوماً بالأمان ولم أحبها. وكانت آخر مرة التقينا فيها في مدينتنا الحبيبة، اللاذقية. يومها، قمنا مع الصديق الغالي (صديقنا الحبيب المشترك، منذر مصري) بجولة على الأقدام بين آثار مدينة أوغاريت العتيقة (الصورة). تأبط العم ميشيل ذراعي وراح للمرة المئة يحدثني عن فكر وآراء وذكريات صديق عمره ومعلمه، كبير اللاذقية، ألياس مرقص، والذي لطالما حسدت العم ميشيل على أنه تعلم على يديه وعرفه وتحاور معه شخصياً. 

أهم لقاء بيني وبين أبو أيهم، والذي ترك بصمة لا تمحى على قصة حياتي كان في صيف عام 2002. كنت وقتها في اللاذقية وكان العم ميشيل يقضي فترة صيفٍ فيها أيضاً. يومها التقينا في صومعتي الصغيرة القريبة من منزلنا حيث كنت احتفظ فيها بكتبي وأسطواناتي وأوراقي وأشيائي وأختلي بها للكتابة والقراءة والسماع للموسيقا الكلاسيكية كلما رزت العائلة في المدينة. يومها تحدثـنا عن المجتمع المدني ونشاطه وأحوال البلد، وسمحت لنفسي بأن أعطيه مقالة كتبتها بعنوان "الإصلاح وتوريث الخوف". كانت يدي ترتجف وأنا أتجرأ أن أعطي خربشاتي السياسية المبتدأة للخال المعلم والمفكر الكبير والناشط المرجعي الذي لطالما كنت ألتهم كل ما يكتب وأقرأه كتلميذ ينهل من أمهات كتبٍ، كتلك التي كنت أنهل منها في مكتبات بريطانيا في عملي على الدكتوراه. أعطيته المقال فقرأه بصمت وابتسامة خفيفة على وجهه وقال لي: "ممتاز. سأشاركه مع بعض الزملاء والأصدقاء إن سمحت لي وأعود إليك بانطباعاتهم. لا تنشره حالياً". وهذا ما كان. عاد هو إلى دمشق وعدت أنا إلى بريطانيا، لأعود بعدها ببضعة شهور مجبراً إلى سوريا في عطلة أعياد الميلاد بسبب استدعائي للتحيقيق الأمني في فرع أمن الدولة بسبب المقال المذكور والتهديد باعتقال عائلتي إن لم أمثل شخصياً. سأتعرض للتحقيق الأمني في السنوات التالية وسأتبع الكتابة دون توقف وأنا أعلم أن العم ميشيل كان يقرأني ويتصل بوالدي في غيابي ليعبر له عن إعجابه بما كتبت. ولكن، هذه البداية المقترنة بإيمان أبو أيهم بما كتبت وضعت قدمي على سكة كل المواقف والخيارات السياسية والوطنية التي أخذتها في حياتي حتى هذه اللحظة، والتي لم أندم عليها أبداً ولم أنظر فيها ولا مرة واحدة للخلف. كنت أحاول أن أنظر إلى الزاوية نفسها التي اعتقدت أن العم ميشيل ينظر إليها.

في سنوات الثورة، كان من الطبيعي أن أخطو على مسار الانتفاض نفسه على النظام الذي سار عليه العم ميشيل مع كثير من المعارضين والوطنيين السوريين من رفاقه. اختلفت مع الخال أبو أيهم في الرأي حول تفاصيل وجزئيات ووجهات نظر ومواقف وتمنيت لو لم يتخذ بعضها. لكنني بقيت على تواصل معه على قدر استطاعتي وكلما كان هذا ممكناً في زحمة انشغالاته وغرقه العميق بشؤون الثورة والمأساة السورية وفي خضم غرقي لقمة رأسي بالأكاديمية وشجون الشرق الأوسط والمأساة السورية. قبل أسابيع قليلة من رحيله الفاجع، تحادثـنا عبر الواتساب. اتصلت به بعد أن سمعت من يقول أن الفيروس القاتل قد أصابه. يومها تحادثـنا معاً وكأننا مازلنا جالسين نحتسي الشاي في صومعتي القديمة في مدينة اللاذقية: هو بصوته الواثق والعميق وعقله النير واحتضانه الحميم، وأنا بارتباكي وجلوسي في محضر معلم كبير وأب فكري وثوري كمن يستمع ليتعلم. يومها سألني عن الأهل، والدتي وأختي وأخي وعن أخبارهم. وسألني أيضاً عن أخباري الخاصة. ثم طلب مني بكل محبة أن أرسل له آخر كتبي ومؤلفاتي بالعربية كي يقرأها، ووعدني أن يرسل لي كتابه الأخير عن تجربة البعث في سوريا. وعدته أنني بعد أن أنهي انتقالي إلى أوروبا سأرسل له نسخة من كتابي العربي الأخير "أحفورات الفهم، تاريخانيات المعنى" وأنني سأزوره في باريس إن أمكنني ذلك. بعدها تتالت الأسابيع وأنا أترك له رسائل صوتية على الواتساب والتقط  كلمات قليلة تكتب لي من طرفه عن حالته. آخر ما تلقيته من طرفه على الواتساب كانت رسالة تقول "مددوا لي العلاج اليوم لأسبوعين". تركت له رسالة صوتية رداً على ذلك وتمنيت له العودة السريعة بيننا. في صباح 19 من نيسان 2021، أخبرني صديقي وأخي الغالي، وسيم حداد، بالخبر المفجع والأليم: رحل ميشيل كيلو، "الخال أبو أيهم"، معلمنا الكبير من بيننا.

"عم ميشيل"، سامحني، لم أستطع أن لا أبكيك... لم أستطع أن أكون هذا الرجل الذي شجعتنني أن أكونه قبل ستٍّ وعشرين سنة. أعلم تماماً أنك لم ترغب يوماً أن تعرِّف نفسك بدلالة خلفيتك المسيحية بل بدلالة سوريتك الأصيلة وفقط سوريتك. وأعلم أنك لم ترد يوماً أن تقول أنك تنطق باسم المسيحين، فأنت دوماً ومراراً نطقت باسم كل السوريين، من وافقك ومن اختلف معك، من آمن بفكرك ومن تهجم عليك. ولكن، عليك أن تعلم وأنت في عليائك الأبدية بأن مسيحيي سوريا الأحرار والثوار (وهم حقيقيون وليسوا وهماً)، أحببت ذلك أم لم تفعل، فقدوا اليوم الصوت المسيحي الحر والثوري والوطني الحقيقي والرائد بينهم. كان صوتك يضعنا على الخريطة ويذكر الآخرين بأننا موجودون  وأننا نشارك في أوجاع وأحلام ومظلوميات ونضال كل السوريين في سعيهم نحو الحرية والدولة والعدالة والديمقراطية والمستقبل. كنا نرد على من يتهم المسيحيين تجنياً بأنهم منبطحون للنظام المجرم والمستبد ضد غالبية الشعب السوري بالقول "ميشيل كيلو هو صوتنا المسيحي في قلب النضال ضد النظام وهو من آباء الثورة السورية الذي يثبت أننا قلباً وقالباً من ومع أهل سوريا وسنبقى". لم تكن يا "عم ميشيل" صوت سوريا، كل سوريا، الحر والمناضل فقط. كنت أيضاً، علمت أم لم تعلم، صوت المسيحيين الشرفاء والوطنيين أيضاً في قلب ضعفهم وقلة حيلتهم وعجزهم وتهميشهم الدائم من قبل البعض. رحل اليوم صوتك الذي كان يظللنا جميعاً ويحمل أحلامنا ويعلمنا كثيرا حتى في اختلافنا معه ونقدنا له وتمنينا عليه أن يأخذ بعضاً من خطا مختلفة. فكرك العميق والعلمي والثاقب والدولتي الذي فقدناه من بيننا هو من أكثر الأفكار التي ستحتاجها سوريا في المستقبل، إن كان لها مستقبل ما. فقدناك اليوم سيداً ومعلماً لأصوات الحرية والثورة السورية والمسيحية على حد سواء في سوريا. فقدت سوريا اليوم أحد أهم وطنييها ومناضليها الكبار الذين عاشوا حياتهم لأجلها قولاً وفعلاً وفكراً وممارسة وأثمانا... إلى حضن الملكوت أيها المعلم.... سأشتاق لصوتك العميق والواثق. سأفتقد للأمل الذي كنت تعطيه لي وأنت بعيد وناءٍ وغارق في معاركك.... لكنني لن أترك ذاك الدرب الذي حدثتني للمرة الألف عنه وأنت تبتسم وعيناك تلمعان بالثـقة في منتصف ظهيرة يوم جميل تمشينا فيه وأنت تتأبط ذراعي في مدينة أوغاريت العتيقة على كتف البحر المتوسط واللاذقية التي عشقناها معاً.