icon
التغطية الحية

رحلة أنور البني.. من بناء سجن صيدنايا إلى محاربة النظام قضائياً

2020.12.15 | 14:09 دمشق

photo_2020-12-15_15-08-12.jpg
أنور البني (إلى اليسار) في موقع البناء بصيدنايا عام 1982
الغارديان - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

وقفَ أنور البني حياته من أجل حقوق الإنسان في سوريا، واليوم في منفاه بألمانيا أصبح جزءاً من المحاكمة الأولى من نوعها لجرائم الحرب التي ارتكبها نظام بشار الأسد

لم يكن قد مضى لأنور البني على وصوله إلى ألمانيا سوى شهرين عندما توجه لأحد المحال التجارية فوجد نفسه وجهاً لوجه مع رجل خيّل إليه أنه حقق معه وسجنه قبل عقد من الزمان تقريباً. كان كلاهما يشتري حاجيات البيت من متجر تركي قريب من بوابات مارينفيلد، وهو مخيم للاجئين في برلين التي أصبحت موطناً لهما الآن. وقد تمكن البني من التعرف إلى ذلك الرجل بشكل مشوش، إلا أنه لم يستطع أن يعرف أين التقى به.

حدث ذلك في عام 2014، أي قبل سنة من قرار أنجيلا ميركل بفتح حدود ألمانيا أمام اللاجئين، والذي أدى إلى وصول أكثر من مليون سوري هربوا من الحرب والضيق في بلادهم. ومع ذلك تمكن آلاف السوريين من أن يجدوا طريقهم إلى برلين قبل صدور هذا القرار. وهكذا أصبح البني وهو محام مختص بحقوق الإنسان يتمتع بخبرة تتجاوز ثلاثة عقود في محاربة النظام السوري ضمن المحاكم، وسنوات عديدة أمضاها في سجون النظام لسوء حظه، جزءاً من شبكة كبيرة تضم زملاء وموكلين وأصدقاء ومعارضين سابقين.

ويتذكر البني تلك الأيام فيقول: "كنت برفقة زوجتي فقلت لها: إنني أعرف هذا الرجل لكني لا أستطيع أن أتذكر من هو، وبعد مرور بضعة أيام، قال لي أحد أصدقائي: أتعرف أن أنور رسلان موجود في مارينفيلد معك؟ وعندها أدركت ذلك".

وهذان الأنوران، اللذان تفصل بينهما أربع سنوات في العمر، درس كل منهما الحقوق، إلا أن كلاً منهما اختار أن يستخدم القانون باتجاه معاكس للآخر وذلك بالنسبة للنظام السياسي المستبد الحاكم في سوريا، فقد أصبح رسلان ضابطاً في الشرطة، وذلك قبل أن ينتقل إلى جهاز المخابرات، حيث أسهم في اعتقال أنور البني هناك.

وبالعودة إلى النقطة الأولى، لم يفكر البني بذلك اللقاء كثيراً، فقد كان مشغولاً بملفاته القانونية، وهو يتابع عن بعد النضال ذاته ضد الدولة السورية ومرتكبي الانتهاكات باسمها، تلك الأمور التي استهلكته لعقود خلت، ولهذا يقول عن رسلان: "لا أكرهه كشخص، كوني أعرف أن المشكلة تكمن بالنظام، ولهذا لا أشعر بأي شيء تجاهه في واقع الأمر".

ومع ذلك، وفي غضون أربع سنوات، تصادف أن التقى الرجلان مرة ثانية، بعدما انقلبت الأدوار، وذلك عندما أخذت ألمانيا تستعد لإجراء محاكمة فريدة من نوعها في تلك القضية، حيث كان البني يتعاون مع السلطات الألمانية، ويساعد المدعين العامين في ألمانيا، في حين تم حبس الأنور الآخر في السجن.

إذ بعد مرور عقد تقريباً على الحرب السورية، أصبح رسلان أول شخص يمثل أمام القضاء في العالم بأسره بسبب التعذيب الذي تمارسه الدولة وعمليات القتل التي طالت المدنيين في ذلك النزاع. وهنا ساعد البني في البحث عن شهود يرغبون بالإدلاء بشهاداتهم، بعدما أصبح شوكة في حلق المسؤولين في دمشق.

 

 

فقد اتهم أنور رسلان الذي كان لواءاً في المخابرات، بجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في السنوات الأولى للنزاع، قبل أن ينشق في عام 2012، حيث كان يعمل في ذلك الحين لصالح المخابرات العسكرية ويترأس قسم التحقيق في الفرع 251 سيئ الصيت، ولهذا الفرع سجن خاص به. وهناك كان أنور رسلان يشرف على نشر الرعب، حيث كان السجناء في ذلك الفرع يخضعون للتعذيب وقد شمل ذلك الصعق بالكهرباء، والضرب والاعتداء الجنسي وذلك على مدار 16 شهراً بحسب ما أوردت النيابة العامة. كما ورد في لائحة الاتهامات الموجهة إليه بأن أكثر من أربعة آلاف شخص تعرضوا للتعذيب وتوفي من بينهم 58 شخصاً وذلك خلال الفترة التي ترأس هو فيها ذلك القسم.

 

اقرأ أيضاً: ست إجابات عن 20 قضية رفعت ضد مسؤولي "الأسد" خارج سوريا

هذا ولقد بدأت محاكمة رسلان في 23 نيسان بكوبلينز، وهي مدينة تاريخية تقع على ضفاف نهر الراين بين فرانكفورت وكولونيا، حيث مثل أمام هيئة محكمة مؤلفة من ثلاثة قضاة. ومن المتوقع أن تمتد هذه المحاكمة لفترة تتجاوز السنة. ويخضع للمحاكمة مع رسلان أيضاً إياد الغريب، الذي يعتقد أنه كان جندياً يحمل رتبة متدنية ويعمل تحت إدارة رسلان في دمشق. فكانت تلك لحظة فارقة بالنسبة للكثير من السوريين الذين نجوا من غرف التعذيب التي يديرها النظام أو خسروا أحباء لهم فيها. يذكر أنه في حال أعلنت المحكمة رسلان مذنباً، عندها سيحكم عليه بالسجن المؤبد.

مضى عقد من الزمان تقريباً على اندلاع الحرب في سوريا، وفي خضم سعيه للبقاء في السلطة، خرق بشار الأسد القانون الدولي مرات عديدة، وذلك عند استخدامه للتعذيب وللهجمات بالأسلحة الكيماوية، كما استهدف المشافي والبنية التحتية المدنية. ومن بين كل الفظائع التي ارتكبها تنظيم الدولة وغيره من الأطراف في النزاع، تبقى قوات النظام مسؤولة عن غالبية الضحايا بين صفوف المدنيين وكذلك معظم حالات الاختفاء القسري في الداخل السوري.

وهنالك بصيص أمل صغير بالنسبة لتحقيق العدالة عبر المحاكم الوطنية أو الدولية، إذ بعد الهزيمة التي منيت بها المعارضة على نطاق واسع في الداخل السوري، من غير المرجح أن تجري محاكمة الأسد وضباطه في محاكم وطنية. وبما أن سوريا ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، لذا لا يمكن لحكومتها أن تتعرض للملاحقة من قبل نيابة المحكمة الجنائية الدولية. وقد يطلب مجلس الأمن الدولي التحقيق بتلك الجرائم، إلا أن المحاولات للقيام بذلك عرقلتها روسيا والصين مرات عديدة. كما تم إحباط الدعوات لإنشاء محكمة خاصة على غرار محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة.

 

أول محاكمة في ألمانيا لشخصيات أمنية سورية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية

 

وهذا يجعل المحاكم الوطنية الخيار الوحيد المتبقي للناجين في محاولتهم محاسبةَ شخصيات من النظام. ولكن في دول مثل ألمانيا ثمة مبدأ الولاية القضائية الشاملة الذي تم إدراجه ضمن قوانينها، والذي يبيح للمحاكم أن تقوم بمقاضاة شخص ما بتهمة ارتكاب جريمة ما في أي مكان في العالم، في حال كانت هذه الجريمة خطيرة إلى حد معين.

ولا تعتبر هذه المحاكمة أول محاولة لجعل شخصيات من الطبقة الحاكمة في سوريا تمثل أمام القضاء، إذ هنالك عدد من مذكرات الاعتقال التي صدرت بحق شخصيات رفيعة في عدد من الدول الغربية. بيد أن النخبة الحاكمة من النظام وضباطه بقيت تختبئ بأمان داخل حدود سوريا، إذ لا يسافر هؤلاء إلا للدول الحليفة التي لا يمكن أن تقوم بتسليمهم. ولهذا تعتبر هذه المحاكمة أول محاكمة يتم فيها اتهام شخصية بلعب دور محوري ضمن مجموعة السجون التي تديرها الدولة، وقد تعين على تلك الشخصية في هذه المحاكمة أن تقسم ليتم استجوابها بعد ذلك حول طريقة عمل غرف التعذيب، وكيف ساعد هؤلاء الأشخاص في دعم نظام بشار الأسد.

 

أنور البني شخص نحيل لكنه قوي، إذ يطل علينا بشاربه الكث مرتدياً بزة بشكل ارتجالي تحتها قميص بلا ربطة عنق. لقد أمضى هذا الرجل جل شبابه وهو يناضل من أجل حقوق الإنسان في بلد أصبح أمثولة لانتهاكات حقوق الإنسان، ذلك النضال الخطر الذي لم يثمر عن أية نتيجة. إلا أن ذلك لم يوهن عزيمته أو يقلل من روح الدعابة لديه، إذ نادراً ما تفارقه الابتسامة المرسومة على وجهه، وبيده لفافة تبغ أو سيجارة إلكترونية تعود عليها بعد حظر ألمانيا للتدخين في الأماكن المغلقة، ما يعني أنها ليست محاولة من قبله للتخلي عن عادة التدخين.

وبعمر الحادية والستين، تراجع منبت شعره، إلا أنه حافظ على لونه البني الداكن كما كان أيام شبابه، لكن شيئاً من الشيب بات يخالطه. كما أن آماله ما تزال معلقة بتلك التي تعود لأيام الشباب، إذ يقول: "لن أفقد إيماني يوماً، وأنا على يقين من أني سأنتصر" وذلك عندما سألته هل يحس بالندم لأنه ناضل لتحسين الأوضاع في سوريا.

التقيت به في مطلع هذا العام، عقب المحاكمة، في حي مليء بالإبداع في برلين، تكثر فيه المستودعات التي تم تحويلها، والمقاهي ذات الطراز الحديث، وحدث اللقاء في مبنى لشركة تقوم بإنتاج أفلام. بدا المكان غير مناسب للاجتماعات، ولهذا كنت أسأل نفسي إن كنت أخطأت في العنوان أم لا. ولكن في الواقع، عرض مخرج من برلين على أنور البني أجرة مخفضة على غرفة تقع قبالة ممر تزينه أعمدة من طراز قديم، وتنتشر فيه نباتات واضح أن هنالك من يعتني بها جيداً، إلى جانب مكاتب المنتجين ذات الأبواب المفتوحة.

كان أنور يدرك أن تفاؤله ومرحه لا مكان لهما حينئذ، في ظل المأساة الشديدة التي تعاني منها سوريا، ولهذا قال لي في لحظة من اللحظات: "أتمنى ألا تعتبريني دون كيشوتاً"، إذ يقدر عدد الضحايا السوريين بأكثر من نصف مليون نسمة، إلى جانب الآلاف من المفقودين غيرهم. كما أن نصف عدد السكان قبل الحرب قد نزحوا من بيوتهم، فأصبح 6.6 ملايين نسمة لاجئين خارج بلادهم، في حين ظل كثيرون نازحين داخلها.

غير أن انتهاكات حقوق الإنسان كانت موجودة قبل فترة طويلة من قيام الحرب. ثم إن البني لم يتمكن عبر نضاله لفترة طويلة من أجل سوريا أكثر ديقراطية من كبح ممارسات النظام، إلا أن ذلك كان كافياً لاعتقاله عدة مرات، حيث صدر حكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات في إحدى تلك المرات. وهو يدرك تماماً ماذا يعني أن تفقد عزيزاً في السجن، وذلك لأن شقيقته وأشقاءه الثلاثة، وشقيقة وشقيق زوجته جميعهم أمضوا في السجن مدة 73 سنة بوصفهم لاجئين سياسيين في سوريا.

وفي الوقت الذي أثار فيه عمل البني في سوريا قبل الحرب الكثير من الاهتمام، كانت أسرته تعاني على المستوى المالي في أغلب الأحيان، وذلك لأنه كان يترافع في القضايا مجاناً، ولقد قامت السلطات بملاحقة زوجته، فخسرت عملها كمساعدة مهندس في عام 2007، وصدر أمر بمنعها من السفر. ويحكي لنا البني عن ذلك وعلى وجهه ابتسامة حزينة فيقول: "كانت ترى كيف أصبح لدى أصدقائنا بيوت لائقة، وسيارات فارهة، بالرغم من أنها كانت تعرف بأنني أتفوق عليهم بالمحاماة... لقد عانت كثيراً بسببي".

وحينما سألته هل طلبت منه زوجته أن يغير مهنته، ضحك ضحكة مجلجلة غيرت معالم وجهه ثم قال: "تلك مسألة معقدة"، وذلك قبل أن يعترف بأنها حاولت أن تمنع ولديهما من أن يحذوا حذو أبيهما ويصبحا محاميين، وفي إحدى المرات طلبت منه أن ينهي إضرابه عن الطعام في السجن من أجل ولديهما اللذين قلقا عليه كثيراً فلم يعد باستطاعتهما أن يدرسا.

وعندما هرب البني أخيراً من بلده في عام 2014، تمنت السلطات له أن يختفي ولا يسمع أحد به، إذ لم يكن هنالك ما يكشف أن بوسعه أن يواصل عمله في أوروبا التي تعبت من الحرب في سوريا فركزت على محاربة تنظيم الدولة، إلا أن قوته هناك تعاظمت.

 

قد تبدو قصة حياة البني ضرباً من الخيال أكثر من كونها حقيقة، وذلك لأنها مليئة بالمنعطفات التي لا يمكن لأحد أن يتوقعها وكذلك بالمصادفات الغريبة، حتى قبل أن يلتقي برسلان بفترة طويلة. فوالده الذي كان يعمل صائغاً والذي تخصص أيضاً بتقليد صناعة التحف التي كان يبيعها للتجار معدومي الضمير، فارق الحياة عندما كان أنور في الثانية عشرة من عمره، ولهذا امتهن أنور مهنة أبيه ليعيل أسرته إلى أن أنهى أشقاؤه دراستهم.

ثم ترك تلك المهنة بعد فترة طويلة من الزمن، إلا أنه لم يتخلَّ عن مهاراته فيها ولا عن عينه التي تميز الجمال. فقد قدم لي أحد الأصدقاء عقداً صنعه أنور في السجن، ويتألف من جسم دولفين صنعه من مسحوق القهوة والحليب المجفف وقطع من نوى التمر التي مزجها بالصمغ وتركها حتى تجف، ثم قام بصقلها حتى تصبح لامعة وتبدو وكأنها نحتت من مادة مركبة نادرة. أما السلسال فقد صنع من خيوط نحاس سحبت من أسلاك قديمة.

قرر البني أن يصبح محامياً بعدما شاهد إخوته وهم يختفون في غياهب السجون بسبب تبنيهم للفكر الشيوعي. ولكن ونظراً لفقر حال الأسرة، عمل البني بالبناء والإنشاءات في مطلع الثمانينيات وذلك قبل أن يبدأ فترة التدريب على المحاماة، حيث قام خلال تلك السنوات بالمساعدة في بناء أسوأ سجن في سوريا سمعة، ألا وهو سجن صيدنايا القريب من دمشق. وتظهر الصورة أدناه أنور البني شاباً يرتدي نظارات في الموقع وهو يبتسم مرتدياً قميصاً أبيض اللون، مع ياقة واسعة وكبيرة وفقاً للطراز السائد في تلك الأيام.

 

 

 

 

وحول ذلك يخبرنا البني عن المشروع الذي صمم بالأصل ليتحول إلى سجن أكثر إنسانية، وكان يعرف أن أشقاءه المسجونين سينزلون فيه، فيقول: "أحسست بالسعادة عندما رأيت المخططات، إذ لم يكن هنالك شيء تحت الأرض، فجميع الغرف تدخلها الشمس والهواء، وهنالك مكان مخصص لممارسة الرياضة، وملعب لكرة القدم وآخر لكرة السلة". ولكن عندما قام المعتقلون بعصيان في هذا السجن في عام 2008، تحولت صيدنايا إلى أنموذج للانتهاكات والتعذيب.

لم يكن البني يحمل أفكار أشقائه السياسية، إذ لم يؤمن بحياته بأي حزب أو دين، بل فقط بالروح الإنسانية والحقوق الفردية، وحول ذلك يقول: "لم أؤمن بحياتي بأن الله أراد أن يساعدني، ولعل ذلك لأني لم أعتمد إلا على نفسي منذ عمر الثانية عشرة". غير أن النشاطات التي أوصلته إلى السجن في عام 2006، والتي تشمل صياغة دستور ديمقراطي جديد لسوريا مع غيره من الناشطين، اعتبرت تهديداً وتحدياً ليس فقط للأسد، بل أيضاً لمعارضيه، حسب وصف البني الذي يقول: "الجميع يقدم وعوداً حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون أن تكون لديهم خطة عملية لتطبيق ذلك، ولذلك أردت أن أعرف ما هو برنامجك لتحسين حياة الناس؟"

 

عندما بدأ البني فترة التمرين على المحاماة في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، كان حافظ الأسد يحكم البلاد ويعد العدة لابنه باسل حتى يخلفه. أما بشار فكان مجرد طالب طب وطموحاته السياسية محدودة، إلا أن وفاة شقيقه في حادث سيارة عام 1994 جعل الوريث المعتوه الذي كان طبيب عيون درس في بريطانيا يظهر فجأة. وبعد ست سنوات على ظهوره، توفي الأسد الأب، تاركاً مسؤولية إدارة البلاد لابنه البالغ من العمر 34 حينئذ (وعملياً، فاز بشار بالاستفتاء على تولي الحكم بنسبة 97% من الأصوات).

وهكذا ظهر بصيص أمل صغير في أن يقوم ذلك الشاب الذي أمضى حياته خارج البلاد، وتزوج من أسماء تلك السورية البريطانية المبهرة بحكم البلاد ولعب دور المصلح فيها، إلا أن ذلك سرعان ما تبدد. ولقد أثبتت الحرب في سوريا بأن الابن تفوق على أبيه بسفك الدماء والوحشية.

وحول ما يعرف بربيع دمشق يحدثنا أنور البني فيقول: "ظهرت الكثير من الأكاذيب عندما تولى بشار الحكم، فكل شيء كان سطحياً، ومن ذلك عاداته الغربية، وادعاؤه بأنه سيفتح الباب للديمقراطية وللمجتمع المدني. ولهذا لم نصدق أي شيء من ذلك، لكننا رغبنا أن نجربه. بعد ذلك شرعوا باعتقال الناس".

فإلى جانب غيره من المحامين الشباب المثاليين، قرر أنور أن يبدأ بمحاسبة النظام، وحول ذلك يقول: "أنشأنا لجنة للدفاع عن المعتقلين السياسيين" وهذا العمل هو الذي نتج عنه ولو بشكل غير مباشر المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، وهو منظمة حقوقية طموحة أُسست في دمشق في عام 2004.

وحول ذلك يخبرنا البني بأن الاسم اللطيف للمركز كان هدفه التخفيف من حدة مخاوف المسؤولين، بالرغم من أن ذلك أدى إلى اعتقاله وصدور حكم عليه بالسجن، إذ حكم عليه في عام 2006 بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة: "نشر أخبار كاذبة، وتأسيس جماعة سياسية غير مرخصة، والتعامل مع دول أجنبية".

 وعندما أخلي سبيل البني في عام 2011، بدت البلاد على شفير تغييرات كبيرة. فمع بداية الربيع العربي، بدا وكأن الأسد سينضم لقافلة الديكتاتوريين الذين تم إسقاطهم فهربوا إلى المنفى مثلما حدث للرئيس التونسي زين العابدين بن علي، أو من تم حبسهم مثل الرئيس المصري حسني مبارك، أو حتى من تم قتلهم مثل الرئيس معمر القذافي. إلا أن الثورة السورية انزلقت نحو حرب شاملة، وذلك مع تنافس عدد كبير من الجماعات المقاتلة بينها إسلاميون متطرفون على السلطة.

وهكذا تحولت سوريا إلى مكان خطر، حيث تعرض الكثير من المدافعين والمحاربين عن حقوق الإنسان للقتل أو الاختفاء القسري، ومن بينهم صديقان مقربان من البني وهما خليل معتوق ورزان زيتونة اللذان أسسا معه مركز الدراسات القانونية. إذ اختفى معتوق في إحدى المناطق التي يسيطر عليها النظام وذلك في عام 2012، أما زيتونة فيتعقد أنها تعرضت للاختطاف على يد جماعة جيش الإسلام قبل اختفاء معتوق بسنة، وذلك في ضواحي مدينة دمشق.

وبالرغم من تزايد التهديدات، ظل البني راغباً بالبقاء في سوريا، حيث قدم أصدقاؤه حياتهم، وكان يدرك بأن المنفى غالباً ما يبعد المرء عن الاهتمام بقضاياه. ولكن في مطلع عام 2014، حذره معارفه من صدور مذكرة جديدة لاعتقاله مرة أخرى، كما أن قوات الأمن انقضت على شقيقه أكرم عندما كان في حفل زفاف اعتقاداً منها أنه أنور، ولهذا أرسل أنور زوجته وولديه إلى خارج البلاد قبله، فانتشرت أخبار حول هروبه، ما دفعه للاختباء والتخطيط للهرب هو أيضاً.

وهكذا صبغ شعره باللون الأشقر، وشمل التغيير حتى شاربيه، لأنه إذا حلقهما سيتركان علامة واضحة، كما ارتدى عدسات لاصقة بلون أزرق، وقدم له أحد الأصدقاء هويته الشخصية، في حين نقله آخر بسيارته إلى الحدود مع لبنان وطلب منه أن ينتظر مكالمة هاتفية. انطلق الركب عند الغسق، ويخبرنا أنور عن ذلك بالقول: "قصدنا ذلك في الوقت الذي تصعب فيه الرؤية، ولا يقوم الناس بإشعال الأضواء، كما أن الظلام في تلك الساعة لم يكن قد خيم بحيث لا يمكنهم أن يستخدموا مصابيح اليد عند نقاط التفتيش، أي أن ذلك كان التوقيت الأنسب للعبور".

مرّا بالسيارة على ستة أو سبعة حواجز تفتيش، حيث أخذ صديقه يمازح الحرس ليصرف انتباههم عن الراكب الذي التزم الصمت وانشغل بقراءة أوراقه المزيفة. وبعد مرور أقل من ساعة، وصلا إلى سفح جبل خال من الحرس، ومن هناك عبر البني الحدود ليصل إلى لبنان وليبدأ حياة جديدة.

 

كان هدف معارف البني هو أن يجنبوا تلك الأسرة مشقة الرحلة الطويلة براً وبحراً التي سلكها معظم السوريين الذين فروا إلى ألمانيا. وهكذا تم إصدار سمة دخول لهم في بيروت ما ساعدهم على السفر جواً إلى برلين مباشرة، وهناك قدموا طلب لجوء، ثم بدأ البني بمواصلة كفاحه من أجل حقوق الإنسان.

وفي آذار من عام 2015، أي بعد مرور يومين على انتقالهم من مخيم للاجئين إلى أول بيت لهم بألمانيا، سافر البني إلى نيويورك ليلقي خطاباً أمام الأمم المتحدة. فقد دعته يومئذ منظمة العفو الدولية فتحدث إلى تلك الهيئة عن الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سوريا. وأخبر الأمم المتحدة أنه خلال ذلك الاجتماع القصير فارق معتقلان الحياة في أحد السجون السورية، كما أعلن لهم أن نحو 150 ألف سوري باتوا في عداد المفقودين حينئذ.

ولكن عند عودته إلى ألمانيا، لم يكن لديه مكتب، ولا رخصة لمزاولة المهنة، إذ بالرغم من دعوة الأمم المتحدة له، لم يبد رؤساء الدول الأوروبية كبير الاهتمام بالحرب في سوريا، وحول ذلك يقول: "لم أتخيل أن بوسعهم أن يشاهدوا كل تلك الأمور تحدث وأن يبقوا صامتين، لم أكن أريد أن أظن بأن أوروبا ستمضي كل هذا الوقت وهي واقفة تتفرج، لقد صدمني هذا حقاً".

ولهذا يعتقد بأن أنور رسلان ظن بأن عدم الاهتمام هذا، أو أن قرار انشقاقه في عام 2012 قد يحميانه، إذ غادر سوريا بعد أشهر قليلة على مجزرة وقعت بمدينة الحولة معقل المعارضة، وترك أسرته في بلده، حيث توجه في البداية إلى الأردن ومنها إلى تركيا، بعد ذلك انضم إلى صفوف المعارضة، ثم طلب اللجوء في ألمانيا.

اقرأ أيضاً: القضاء الألماني يستخدم "صور قيصر" كأدلة في محاكمة "كوبلنز"

وقد كان يتحدث بصدق عن عمله مع مخابرات النظام، اعتقاداً منه أن الماضي أصبح خلفه. بل إنه أيضاً طلب مساعدة الشرطة الألمانية في عام 2015، عندما اعتقد أن عملاء النظام كانوا يتعقبونه. إلا أن الشرطة لم تتوصل إلى أية أدلة تثبت ذلك، ولكن في عام 2017 استدعي رسلان كشاهد في تحقيق حول جرائم الحرب في سوريا. وهذه المقابلة دفعت المحققين للبدء بالنظر في أنشطة رسلان نفسها، ولهذا تم إلقاء القبض عليه في عام 2019 ووجهت إليه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وفي شهر أيار الماضي داخل قاعة المحكمة، أنكر رسلان كل التهم التي نسبت إليه، وفي بيان تلاه محاميه، ذكر بأنه كان يعامل المعتقلين وفقاً لما يقتضيه القانون، "بل إنه كان يقدم لهم القهوة في أول جولة للتحقيق معهم". وأضاف بأن بعضهم التقوا به في المنفى، ثم إن سرعته في إطلاق سراح السجناء أدت إلى تقليص سلطاته حسبما ذكر، وورد في نصوص المحاكمة التي نشرها المركز السوري للعدالة والمحاسبة عبر الشابكة.

وفي شهر حزيران، وقف البني على منصة الشهود ليدلي بشهادته حول الفظائع وكذلك حول البنية البيروقراطية لسجون الأسد وغرف التعذيب التي يعرفها جيداً بفضل تجربته معها وبعد سنوات من تمثيله للناجين منها، إذ قال عن تلك القضية: "إنها ليست قضية شخصية، وذلك لأن هدفي هو العدالة لجميع السوريين".

ومع بداية وصوله إلى أوروبا، تحرر البني من الأوهام وهو يشاهد قدرة الغرب على تجاهل انتهاكات النظام في سوريا. ولكن في المنفى، أخذ يلتقي بمحامين وناشطين وقادة حملات عرفهم خلال سنوات نضاله، فاكتشف بأن العديد منهم كان يسعى لاستخدام النظام القضائي في أوروبا لشن معارك على المستوى الشعبي.

 

 

وفي الوقت الذي لا يستطيع فيه البني أن يزاول مهنته كمحام، كان بين يديه شيء أهم بكثير من الشهادة، ألا وهو ثقة الجالية السورية التي سمحت له بالعثور على الشهود المستعدين للإدلاء بشهاداتهم حول الانتهاكات التي حدثت في بلدهم. إذ إن تحديد هوية الناجين وتمكنهم من الحديث عن المخاوف التي يمكن أن تداهمهم عند الإدلاء بشهادتهم، يعتبر مفتاحاً لأي محاولة للمحاكمة على جرائم الحرب التي ارتكبت خارج ألمانيا، في حال عدم وجود دليل مادي. وهكذا أصبح البني جزءاً من شبكة الناجين السوريين والناشطين القانونيين الأوروبيين الذين عزموا على عرض تلك القضايا أمام العدالة، فرفعوا قضايا في كل من السويد والنرويج والنمسا بالإضافة إلى ألمانيا. لذا، وفي الوقت الذي ما تزال فيه الأخبار التي تصل من سوريا مريعة، يعتبر هذا التقدم النقطة المضيئة الوحيدة في ذلك النفق المخيف.

ولهذا لم يخامر هؤلاء أدنى شك بأن رفع قضية على رسلان ستكون لها تبعاتها المباشرة على النظام السوري. ولكن حتى في حال إدانة هذا الشخص، لا يمكن القول أنه هو من هندس النظام أو أداره، بما أنه هرب مع بداية الحرب، في الوقت الذي ظلت فيه آلة التعذيب تعمل. إلا أن رفع دعوى جنائية لا بد أن يخلق ثلمة في جدار الإفلات من العقاب الذي سمح الدعم الروسي والتجاهل الغربي للنظام بتشييده حول دائرته الضيقة.

اقرأ أيضاً: دمشق.. محاكمة قُضاة نقلوا ملكية عقارات بوكالات مزوّرة

وحول ذلك يقول المحامي باتريك كروكر: "إذا كان هذا يعني إقلاق نوم إحدى الشخصيات القابعة في دمشق، فإن ذلك يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح"، والسيد باتريك ركز على الجرائم والمحاسبة الدولية لدى المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي لعب دوراً محورياً في الجهود التي بذلتها القارة الأوروبية للاستعانة بالولاية القضائية العالمية الشاملة لإقامة العدالة بالنسبة للسوريين. وتاريخياً، نتذكر بأن محاكم جرائم الحرب وأشهرها محاكمات نورمبيرغ لكبار النازيين، عقدت بعد توقف القتال برعاية المنتصرين في الحرب. ولكن على غير العادة، فتحت ملفات هذه القضية والحرب ما تزال دائرة.، كما أن الرجل الموجود في قفص الاتهام عمل لدى الطرف المنتصر، وهذا يمكن أن يسجل على أنه سابقة جديدة، ليس فقط بالنسبة لسوريا، بل أيضاً لغيرها من الدول.

وهنا يعلق البني بالقول: "لا بد لهذه المحاكمة أن تلقي بظلالها على الأشخاص الذين ما فتئوا يرتكبون جرائم في سوريا. وذلك لأن المحاكمة تجري في الوقت الذي ما تزال فيه الأحداث تجري، وليس بعد انتهاء النزاع ونيل الجميع قسطا من الراحة ليقولوا بعد ذلك: هيا لنقم بعض العدل الآن".

اقرأ أيضاً: أصدقاء أم أعداء؟ وكالة تعيد السؤال عن محاكمة "المنشقين"

كما أشار البني إلى نزاهة النظام القانوني الألماني باعتباره قادراً على تقديم سجل حول الجرائم في سوريا لا يمكن لأحد أن ينازعه فيه، وحول ذلك يقول: "من الضروري أن نوضح لكل العالم حقيقة ما يحدث في سوريا، ولهذا لا يستطيع أحد أن يصف هذه المحكمة بأنها كاذبة أو مزيفة".

بعد مرور ستة أعوام على إقامته في برلين، أصبح البني على قناعة تامة بأنه سيعود إلى سوريا يوماً ما ولهذا لم يحاول أن يتعلم الألمانية كثيراً. لكنه يعبر عن امتنانه لهذا الملاذ الآمن، بالرغم من أنه يشتاق لوطنه ولحياته التي تعود عليها. فمن الأمور التي كانت أثيرة لديه الجلوس في كافيتيريا المحامين في مبنى قصر العدل، ذلك المبنى الذي يعود للعصر الاستعماري القابع وسط دمشق، حيث يتم تقديم القهوة والشاي والسجائر بالإضافة إلى الوجبة المستمرة من الثرثرة القانونية وذلك عندما يجتمع المحامون قبل النظر في قضاياهم من قبل المحكمة أو بعد الجلسات، كما أنه المكان الذي يلتقي فيه المحامون بموكليهم.

أما في برلين، فيحتسي البني عادة القهوة السريعة، إذ يتناول عدة فناجين منها في اليوم، لكنه يقدم لضيوفه القهوة السورية المكثفة ذات الرائحة القوية والمعطرة بحب الهال، إلى جانب الحلويات السورية. إذ مع كثرة السوريين في المنفى أصبح بوسعك أن تشتري الكعك بعجوة من مختلف المناطق في برلين.

نسمع أزيز هاتفي البني عندما تصله رسائل من سوريين في مختلف أنحاء أوروبا ممن ينشدون المساعدة أو يعرضون تقديمها، إلى جانب الرسائل التي تصله من ناشطين. ففي اليوم الذي التقينا فيه أظهر تطبيق واتساب لديه أن عنده 4800 رسالة غير مقروءة. وهذا الرجل قلق على مصير طالبي اللجوء من السوريين الذين تم احتجازهم في قبرص، كما أصبح المئات منهم تحت خطر الترحيل من السعودية.

 هذا ويعيش البني اليوم في مأمن أكثر مما كانت عليه حاله عندما كان يعيش في دمشق، إلا أنه يتعرض للكثير من التهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معظمها تصله عبر أسماء مجهولة، فقط لتذكره بأن الكثير في سوريا سيسرهم أن يروا اسمه بين القوائم الطويلة للقتلى أو المفقودين، ولهذا يقلق على مصير زملائه الذين ما يزالون يعيشون في سوريا.

وفي الوقت الذي تستمر فيه قضية رسلان، يواصل البني مطاردة خيوط أخرى، إذ خلال حديثنا وصل أحد الناجين من التعذيب الذي ما يزال جسده يحمل آثار ندوب سترافقه طيلة حياته، وذلك حتى يناقش قضية مع البني. وهكذا يتم طرح أسماء جديدة لمتهمين دوماً في تلك القضية، وهذا ما ذكره البني بقوله: "سمعنا عنه قبل ثلاثة أيام فقط"، وهنا يتحدث البني عن سوري وصل إلى أوروبا ويشتبه بأنه ارتكب جرائم حرب.

إن البني على قناعة تامة بأن ضباط الأسد لن يتمسكوا بالسلطة إلى الأبد، ولكنه يأمل حالياً أن تتمكن حملات العلاقات العامة والعقوبات والتلويح بالاعتقال والمحاكمة من تحجيم دورهم في أي مفاوضات دولية حول مستقبل البلد بعد الحرب، أو أي جهود مربحة لإعادة الإعمار، إذ يقول: "هدفي الرئيسي هو استبعادهم، وقطع كل الطرق التي يمكنهم من خلالها أن يلمعوا صورتهم وسمعتهم. ولو كان هؤلاء جزءاً من مستقبلنا، فلا بد أن يتحول إلى كارثة".

كما يأمل البني أن تلقي القضايا التي يقوم برفعها والتوحيد بينها في مختلف أنحاء أوروبا بظلالها وأصدائها خارج سوريا، لتهدد حتى أعتى حلفاء الأسد الدوليين بانتفاء أي شيء اسمه الإفلات من العقاب والعدالة.

وأخيراً يعلق على كل ذلك بالقول: "لعله بوسعنا من خلال ذلك أن ننقذ شعوباً وأشخاصاً في أماكن أخرى يوجد فيها ديكتاتوريون مثل الأسد حيث يعتقد هؤلاء أن بوسعهم القيام بذلك ومن ثم النجاة بفعلتهم والبقاء على رأس السلطة. لقد داهم الخوف المجرمين اليوم، وذلك لأنهم أدركوا أنهم لم يعودوا محصنين دون أن يستطيع أحد المساس بهم".


المصدر: الغارديان