رامسفيلد في حلب

2021.04.13 | 06:53 دمشق

338.jpg
+A
حجم الخط
-A

ذات يوم، وفي السنوات الأولى مما سُمّي بعملية "التحديث والتطوير" التي أطلقها عكسا وارث العهد، وفي سنوات الحرب على العراق الأولى، وكنت أشغل وظيفة علمية وإدارية في مركز أبحاث فرنسي في مدينة حلب، تلقيت اتصالاً من دبلوماسي غربي يقوم بزيارة إلى المدينة ويطلب اللقاء. وفي بداية تبادل أطراف الحديث هاتفيًا، تبين لي بأنه مهتم بمسألة الجهاديين العرب والأجانب الذين يعبرون سوريا ويتدربون في معسكر شرقي المدينة برعاية الشيخ أبي القعقاع الذي اغتيل لاحقاً. فأجبته فوراً بأنني لا أعرف شيئاً عن الموضوع ولست بوارد أن أكون مصدراً لمعلوماته، حتى لو عرفت. موقفٌ نابع من قناعاتي وليس من الخوف على الرغم من سطوة ثقافة الخوف حينها.

بعد الصد الذي تلقاه، تابع حديثه الهاتفي ليدعوني إلى العشاء، فاعتذرت بحدة متوقعا أنها طريقة لتليين موقفي وللحصول على ما لا أعرفه فعلاً من معلومات. فاستغرب اعتذاري معزّزاً إلحاحه بالإشارة إلى أنه تناول بالأمس الغذاء مع المحافظ وأمين فرع الحزب الحاكم، والعشاء مع مفتي الديار والغذاء اليوم مع مدير أوقاف المدينة وبعض مسؤوليها، وكلهم عناصر أمنية بامتياز. وقد عزّزت هذه التلميحات من رفضي ليتحول بعدها إلى الخطاب الرسمي طالباً لقائي في مركز عملي عارفاً بأنني كممثل للجهة التي أعمل لديها لا يمكنني أن أرفض لقاءً رسمياً. فحددنا الموعد في صبيحة اليوم التالي.

بعد انتهاء الزيارة القصيرة، رافقته إلى الباب وتبين لي بأن أمام المعهد كانت هناك خمس دوريات أمنية كل منها تابعة لفرع أمني

كانت الزيارة أكثر من عادية، تناولنا فيها أوضاع المنطقة عموماً دون التطرق للشأن الداخلي ليس خوفاً مني، لأنني كنت ـ إلى درجة ما ـ أقول وأكتب ما أفكر به. وليس حرصاً منه علي، لأن الدبلوماسيين عموماً لا يأبهون لتعريض محدثيهم للخطر أو للمسائلة من قبل الأمنوقراطية المهيمنة، ولكن بسبب اختصاصه بالشأن الإقليمي وليس بالملف المحلي. وقد تبين لي بأنه على معرفة واسعة بالملفات الجيوسياسية في المنطقة كما أنه يتحدث العربية بفصاحة سيبويه.

بعد انتهاء الزيارة القصيرة، رافقته إلى الباب وتبين لي بأن أمام المعهد كانت هناك خمس دوريات أمنية كل منها تابعة لفرع أمني. فنظرت إليهم نظرة المسلم بيده صارخاً: "بالدور يا شباب". وبالفعل، تصارعوا على من سيتولى أمري قبل الآخر. وبما أن الفوضى الخلاقة للأجهزة الأمنية تتوجب انعدام التنسيق حتى لا يشكل جزء منه تهديداً لولي الأمر، فقد جرت مفاوضات ماراثونية لتحديد صاحب الحظ بتناولي أولاً. وتوصل الفرقاء إلى أن يستجوبني فرعان في عين المكان وأما الثالث والرابع فقد حددا لي موعدا بعد الظهر لكي انتقل إلى مرابعهم وأقابل مسؤول الأجانب لديهم. أما الخامس والأشد حظوة، فقد رافقني مخفوراً دون قيد إلى "معلمه" سيادة العميد فلان.

استقبلني "المعلم" بالأحضان مظهراً ودّاً لم أعرفه عن نظرائه، وهو بالكاد يعرف اسمي. وبعد السؤال عن الصحة والأحوال وشرب القهوة والشاي والزهورات، تحوّلت قسمات وجهه فجأة إلى طبيعتها، أي قسمات وجه رجل أمن في موقع قوي لا يأبه لا بكرامتي ولا بحياتي حتى. ورفع ورقة في وجهي قائلاً: "الآن ستجيبني بكل صراحة كوطني". فأبديت القبول بكل خوف وحذر. فقال بنغمة عسكرية: "ما هو تبريرك لزيارة هذا الدبلوماسي لك في المعهد الفرنسي في نفس يوم زيارة دونالد رامسفيلد (وزير الدفاع الأميركي حينها) إلى بغداد؟". وأتبع السؤال بابتسامة صفراء كشفت عن أسنان ملونة بالتبغ الأصلي للسيكار الكوبي ولسان حاله يقول "كشفتك مو؟".

شعرت حينها بمفعول تراكم ما شربت من سوائل وبدء تحرك أجهزة إنذار عضوية يُعزّز الخوف من غزارة إنتاجها. وبعد ثوانٍ من التردد والسعي إلى إيجاد جواب يُخلصني من هذه المصادفة الزمنية التي يمكن أن تودي إلى التهلكة، سردت له أسماء من قابلهم من مسؤولين قبلي فقهقه بعنفٍ مرعبٍ قائلاً "كلهم كلاب ولدي ملفاتهم، وساعتهم آتية، أما أنت، فرجل وطني وما زلت أنتظر جوابك". وما كان مني إلا أن وقفت ماداً راحتي باتجاهه طالبا تقييدي وجري إلى القبو بما أن قضيتي وصلت إلى رامسفيلد. فتضاعفت ضحكات المعلم وفاحت منه رائحة فيها مزيج من العرق المقطّر والعرق ذاتي الإنتاج. وقال: "لا يا أبو.... ما عاش الذي يعتقلك، لكن المرة القادمة، نسّق معي".

العقلية الأمنوقراطية التي تربط الحابل بالنابل راسخة وتتمدد

لماذا تذكرت هذه الواقعة اليوم؟ منذ عدة أيام، قامت سيدة من المعارضة السورية بزيارة إلى الشمال السوري لإلقاء محاضرات تتعلق بالديمقراطية والتعددية وحقوق المرأة وإدارة التنوع..، وتقديراً منها للواقع الاجتماعي المحافظ في هذه المنطقة، وضعت في واحدة من الاجتماعات شالا على شعرها أمام عشرات السيدات المنقبات. وقد اعتمدت في ذلك على النظرية المعروفة في علم التواصل التي تشجع على عدم شد الانتباه بعيداً عن مضمون الخطاب لا بالشكل ولا بالحركات. أخطأت التقدير أم أصابت، لا يمكن لهذه العجالة أن تستعرض ذلك. بالمقابل، ثار البعض على ما قامت به واعتبروا بأنها أوصلت الرسالة الخطأ وبأنها قدمت تنازلاً فادحاً. وبعيداً عن استعراض مجمل النقد الذي كان في جزء منه عقلانيا يستحق النقاش، وفي أجزاء مجرد تعبيرات عصبية مشخصنة، برز تعليق صارخ أعادني بذاكرتي إلى "المعلم" رئيس الفرع. فقد اعتبرت إحدى السيدات المثقفات والواعيات إلى أن ما ارتكبته السيدة من خلال تغطية رأسها ما هو إلا "جريمة وكارثة ووراءها ما وراءها". ثم أضافت، بأن هذه السيدة "نسّقت زيارتها تلك مع واشنطن لأن مسؤوليها يغازلون الإسلاميين ويسوقون لهم وقد بدا ذلك واضحا من مقابلة صحفي أميركي للجولاني".

والخلاصة، فإن العقلية الأمنوقراطية التي تربط الحابل بالنابل راسخة وتتمدد.

كلمات مفتاحية