ذكرى 12 تموز 2006: القيامة الآن

2020.07.11 | 23:42 دمشق

lebanon-haret-hreik_105655_highres.jpg
+A
حجم الخط
-A

في 12 تموز 2006، كان تحالف 14 آذار اللبناني يشكل أغلبية تمثيلية في الشارع وفي البرلمان على نحو ساحق، مدعوم من تفاهم أميركي أوروبي وعربي وتأييد أممي واضح. وكان واضحاً أيضاً أن لبنان بقيادة 14 آذار يجنح أكثر للابتعاد عن المحور الإيراني – السوري، ويطرح أجندة تتلخص بإحياء اتفاقية الهدنة مع إسرائيل (1949) وتثبيت الهدوء على الحدود وترسيمها مع إسرائيل. وكان هذا يتم بالتزامن مع استمرار اغتيال قادة 14 آذار ونوابها ومثقفيها وإعلامييها وضباطها، كما بالتزامن مع العمل الدولي في التحقيقات الجنائية في هذه الجرائم الإرهابية وأولها اغتيال رفيق الحريري.

هكذا ابتدأت حرب تدميرية مهولة أطاحت بالبنية التحتية للبلد، وسوّت بالأرض عشرات القرى، وقتلت أكثر من 1500 مدني وهجرت نحو مليون ونصف مليون لبناني.

وحتى ذاك الحين، كان الاتهام موجهاً إلى النظام الأمني المشترك اللبناني السوري، من دون حزب الله. إذ إن اللبنانيين كانوا لا يريدون تصديق أن "المقاومة" قد تتورط في هكذا مسلسل إجرامي.

في المقابل، كانت إيران أحمدي نجاد وقاسم سليماني، وسوريا بشار الأسد وعلي مملوك، وحزب الله حسن نصرالله وعماد مغنية ومصطفى بدر الدين، مستمرون في سياسة ظهرت عام 2004، بتأسيس وتوسيع محور "الممانعة" على نحو ما نراه اليوم في "هلال شيعي" فائض الميليشيات والحروب والخراب وانهيارات الدول الوطنية.

في 12 تموز 2006، كان حزب الله يرى أنه يخسر لبنان وبات وضعه كميليشيا مسلحة محل تساؤل، بعدما انتهت وظيفته كـ"مقاومة" منذ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان وتنفيذها القرار الدولي 425 عام 2000. وشعر أن استحقاق مصير سلاحه بات بنداً وطنياً لا مفر منه. والأهم أن تورطه (الذي سينكشف فيما بعد) في الاغتيالات، قد يوصله إلى محاكمة سياسية قاسية تهدد وجوده.

حُشر حزب الله في الزاوية الضيقة. وكان عليه أن "يقلب الطاولة". فاستقلال لبنان وتثبيت الهدوء على الحدود، وترسيم العلاقة مع سوريا ديبلوماسياً، كاعتراف نهائي بالكيان اللبناني، وتوطيد سياسة لبنانية متناغمة مع الإجماع العربي ومع المجتمع الدولي، سيكون وبالاً على الحزب الذي يجد ديمومته من دوام الاضطراب والحرب والعداء، كما يجد أن لبنان وسوريا والعراق وقطاع غزة إنما يجب إلحاقها بالمشروع الامبراطوري الإيراني.

وكما حال منظمات أو أنظمة مأزومة تتوسل عدواً خارجياً للهروب من استحقاقات داخلية أو وطنية، وجد حزب الله أن تحطيم المسار الذي يسير فيه لبنان يكون بتجديد حال الحرب مع إسرائيل، التي كانت أيضاً تتحين الفرصة للانتقام من الحزب وإعادة الاعتبار لجيشها المهان عام 2000.

على هذا، ومن دون الفصل عن التفجيرات والاغتيالات وسياسة الترهيب اليومية، قامت يوم 12 تموز 2006، مجموعة من الحزب باجتياز الحدود اللبنانية وتنفيذ عملية عسكرية ضد دورية إسرائيلية، بما ينتهك القرار 425 الدولي، ويضع لبنان في موقع المعتدي، فيما ستبدو إسرائيل بموقع المدافع عن نفسه.

هكذا ابتدأت حرب تدميرية مهولة أطاحت بالبنية التحتية للبلد، وسوّت بالأرض عشرات القرى، وقتلت أكثر من 1500 مدني وهجرت نحو مليون ونصف مليون لبناني، وكبدت البلد أكثر من عشرة مليارات دولار كخسائر مباشرة.

بطبيعة الحال، كان الهدف الإسرائيلي خيالياً وغير واقعي: استئصال حزب الله من الوجود. ولأنه خيالي ومستحيل التحقق، كونه ليس منظمة منعزلة أو منقطعة عن شعب ومجتمع وبلد، فإن فشل إسرائيل بإنجاز هكذا مهمة، سيُعتبر تلقائياً انتصاراً للحزب، تماماً كما كان حال الأنظمة العربية وجوابها بعد هزيمة 1967: نعم، تحطمت جيوشنا وخسرنا المعركة لكن النظام لم يسقط.

النتيجة المباشرة للحرب أن حزب الله انتصر على "لبنان 14 آذار" وكسر ذاك المسار الذي كان سيحرر لبنان من قبضة المحور الإيراني – السوري.

إن أول فعل قام به حزب الله بعد انتهاء الحرب، واستثماراً لها هو تدبيره ثورة مضادة للإطاحة بحركة 14 آذار وحكومتها وبرلمانها. حاصر السرايا الحكومية واحتل وسط العاصمة وأغلق مجلس النواب وعطّل البلاد ومرافق الدولة ومؤسساتها. وشهراً بعد شهر، وعلى امتداد سنوات، نجح "حزب الله" في فرض روايته عن حرب تموز. وتهمة ممالأة "العدو" كافية لإسكات أي اعتراض على هذه الرواية. فرض هيمنته على الفضاء السياسي اللبناني. والأسوأ، أن الوطنية اللبنانية باتت متداخلة مع تأييد حزب الله ومناصرة عقيدته الصاروخية. ومنذ أن ابتدع ما يسميه "المعادلة الذهبية" (جيش وشعب ومقاومة) كعقيدة سياسية للدولة، بات من الصعب جداً نقد حزب الله وسلاحه، ناهيكم عن مراجعة تلك الحرب ومحاكمتها، وما تلاها من أحداث أبرزها غزوة 7 أيار 2008.

يروى أن حسن نصرالله قد قال: "آخر مرة سلمنا سلاحنا كانت في معركة صفّين حين ارتضى الإمام علي التحكيم. وهذا خطأ لن نكرره أبداً".

ترتب على هذا، استتباب هيمنة كاملة على لبنان، وصار حزب الله وسلاحه الثابت السياسي الوحيد. بل إن تأييده يكاد يكون من شروط الولاء للبنان. ولأن لا حرب مع إسرائيل منذ 14 عاماً، فقد باتت الحرب السورية هي ميدان تجديد "شرعية المقاومة"(!)، بعدما رّوج أن القتال في حلب وإدلب وصحراء البوكمال هو لحماية اللبنانيين، وضرورة وطنية!!

الخطأ الكبير الذي وقعت فيه حركة 14 آذار تحرّجها من الإقرار بحقيقة أن حزب الله شريك كامل للنظام السوري بكل الجرائم التي شهدها لبنان منذ خريف العام 2004 وحتى أيامنا هذه. وفي أثناء العدوان الإسرائيلي المدمر على لبنان في صيف 2006، كان الشغل الشاغل لحكومة فؤاد السنيورة وللقادة السياسيين المنضوين في تحالف 14 آذار، إقناع الولايات المتحدة والدول الفاعلة في الأمم المتحدة والدول العربية، بتجنيب حزب الله (ولبنان) عواقب صدور قرار عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع، بما يجلبه من تدخل دولي فعّال يفرض تنفيذ أي قرار أممي، ولو بالقوة. وكان الظن لدى هؤلاء السياسيين، أن نجاح الدبلوماسية اللبنانية بإنقاذ الحزب من المعاقبة الدولية، سيقابلها الحزب بالرضوخ لـ"حوار وطني"، أساسه مقررات اتفاق الطائف ومنتهاه حل ميليشياته ودمجها في الجيش، وتحويل هذه المنظمة العسكرية الأمنية إلى حزب سياسي "طبيعي".

لقد كان هذا أيضاً هدفاً خيالياً. إذ لا يمكن لحزب الله أن يكون حزباً طبيعياً. فهو حزب "الانتصار الإلهي"، الذي يستأنف ما ابتدأه يوم 12 تموز 2006، ثأراً لـ 1400 سنة قد يمتد إلى آخر الأزمنة.

يروى أن حسن نصرالله قد قال: "آخر مرة سلمنا سلاحنا كانت في معركة صفّين حين ارتضى الإمام علي التحكيم. وهذا خطأ لن نكرره أبداً". من كانت هذه هي حوافزه ونظرته إلى العالم وإلى نفسه، لن يرضى بأقل من القيامة الآن.