فرحت بصدور كتاب "ذكرى عهود: أشلاء سيرة ذاتية" للأديب الكبير أحمد حسن الزيات، الذي حرره وأعاد بناءه د.عبد الرحمن قائد، وحرصت على أن أحصل عليه، فلبى هذه الأمنية صديق أعتز به وأرسلها لي، وبرغم عملي بين الكتب إلا أن الحصول على كتاب جديد يصيبني بفرحة عارمة.
أخذت أقرأ هذه السيرة الجميلة، وقرأت مقدمة عبد الرحمن قائد وسعدت بهذا الجهد المعرفي الذي قام به، لقد جمع قائد ذكريات الزيات في مختلف عهود حياته من كتبه ومن المجلات التي كان ينشر فيها مقالاته، وفي "ذكرى عهود" مقالاتٌ تُنْشَر اليوم أوَّل مرَّة في كتاب، وكانت مطويَّة من قبلُ في زوايا الصُّحف والكتب والمجلات، ورتبها قائد على مراحل عمره لننتقل معه من الطفولة والصبا، إلى الشباب ثم الكهولة وننتهي عند الشيخوخة. ولم يكتف بهذا الجمع للمقالات التي يذكر فيها الزيات سيرته بل نقل إلينا الفصول التي كتبها الزيات عن الشخصيات التي يعرفها وقابلها، لأن الزيات أكثر من الكتابة عن أعلام عصره في مجلته الرسالة.
قام عبد الرحمن قائد بتفسير ما غمض من الألفاظ والتراكيب مما لم يفسِّره الزيات في الحواشي، وتأثرت بالدافع الذي حكاه في مقدمة الكتاب، فهو يوضح أن دافعه لإخراج هذا الكتاب هو "صلةً لرحم الأدب، وبرًّا بآله، نهضتُ لتحقيق أمنية الزيات هذه التي ظلَّ يتمنَّاها نحو أربعة عقود (1928 – 1968)".
هذا الوفاء لتراث الزيات والنية الحسنة والخلق الجميل من عبد الرحمن قائد، جعلته يجمع لنا كتابا بعنوان "ذكرى عهود" وهي التسمية التي أعلن الزيات أنه ينوي أن ينشر بها سيرته في مقالاته، وهكذا قدم لنا هدية نشكره عليها وأضاف لرف السير الذاتية العربية كتاباً يوضع مع أيام طه حسين ومجايليه من هذا العصر، وهو نص من النصوص البليغة المعاصرة، وهذه هي هديته الثانية للقراء بعد أن أخرج كتاباً بعنوان "مقدمات العقاد" وهو كتاب يستحق الاحتفاء به والحديث عنه، وهو فرصة لمراجعة تراث العقاد وكتاباته.
ولد أديبنا أحمد حسن الزيات في سنة 1885، في محافظة الدقهلية، وتساعدنا السيرة على فهم مراحل حياة هذا الأديب الذي اقترن اسمه بواحدة من أهم المجلات الثقافية "مجلة الرسالة".
تبدأ المذكرات بفصل عن عهد الطفولة، نرى الزيات يستعيد فيها الحديث عن حياته في القرية ويصف قريته منذ ستين سنة، وينقل لنا صورة بليغة من ذاكرته، ونكتشف عند قراءة الكتاب عن عين الزيات كأنها عين باحث اجتماعي يلتقط التفاصيل الصغيرة، التي تهم الباحث الأنثربولوجي، فهو يصور لنا حفلات الأعراس في الريف وطقوسها، ويستعيد ذكرى العيد في القرية، ويقارن القرية بين الأمس واليوم، وعن وضع القرية عند وصول وباء الكوليرا لها عام 1902، وعن أول حب في حياته وموتها بالكوليرا، وننظر للقرية عند لحظات فيضان النيل قبل السد العالي، ويرسم بقلمه صورة لشم النسيم وليالي الحصاد، وهكذا نصل لوصف آسر لحياة هذه القرية التي ولد وترعرع فيها الزيات.
تنتقل المذكرات بعد ذلك لعهد الصبا وهو من أمتع الفصول في الكتاب، وفي هذا الفصل نجد بداية معرفة الزيات بالأدب، فبعد أن حفظ القرآن، اشترى والده كتبا تكون مؤنسة لهم في سهرات الليل، مثل قصة سيف بن ذي يزن وسيرة عنترة بن شداد، وألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. وانعقد السامر لسماع المختار منها، كان مجلس الزيات وهو فتى مراهق بجانب الفانوس الذي يقرأ الشيخ منصور على ضوئه، فكان يرى كيف يصور القارىء العواطف على قسمات وجهه، ويمثل المواقف بنبرات صوته، فيهتز لحماسة الأداء، ويطرب لطلاوة العبارة، ويلتذ من جاذبية القصة، ثم إن والد الزيات أهدى إليه ديوان المتنبي، فكان أول كتاب يقتنيه، وأول شاعر يحبه الزيات.
ثم نراه في الأزهر يحكي لنا كيف عرف الشيخ محمد محمود الشنقيطي، وهو في بداية القرن الفائت، غلاما ناشئا يهوى الأدب، ويحفظ الشعر، ويعالج القريض، يجلس في الرواق العباسي بالأزهر، وكان على خلاف الأزهريين في ذلك العهد يقرأ الصحف، ويغشى الأندية، ويتابع المعارك الأدبية في الضياء لليازجي، والمؤيد لعلي يوسف.
بعد أن يصف لنا الشيخ الشنقيطي، ننتقل معه لقراءة هاجسه في هذه الفترة، قدم في الأزهر وقدم في الصحافة، والزيات ورفاقه طه حسين ومحمود الزناتي يفكرون في أسلوب للكتابة مختلف عن كتابة الأزهريين، كان هؤلاء الفتية يطلون على العصر الجديد من نوافذ الصحف، ويقفون على البرزخ الممدود بين دنيا الأزهر ودنيا الناس، كان أستاذهم سيد بن علي المرصفي يطبعهم على النظم على غرار الحماسة، وفي النثر على كتاب الكامل، ويزين لهم أن ينظموا معلقة كطرفة، وعلى الناحية الأخرى كانوا يفكرون في كتابة تحكي "عن الحال الحاضرة" وواقعهم الذي شعروا أن الصحف تعبر عنه.
تشرح المذكرات هذه الصداقة بين الزيات وطه حسين ومحمود الزناتي في الأزهر وكيف تعارفوا، وعن صفات كل شخصية فيهم بقلم الزيات البديع، وعن عشقهم للكتب، وكانت الكتبخانة المصرية (دار الكتب) هي مكتبتهم العربية، التي يتعلمون منها، ثم انصراف الزيات وطه حسين بعدها لتعلم الفرنسية.
تتيح لنا ذكريات الزيات تخيل حالة الأزهر في ذلك الوقت، وكم تمنيت أن تجمع ذكريات من عاش في الأزهر في عهود مختلفة لتخرج ككتاب يؤرخ للأزهر بقلم من تعلم فيه، ستجد وصفاً للأزهر عند طه حسين في "الأيام"، ولدى أحمد أمين في سيرته "حياتي"، وعند سليمان فياض في "أيام مجاور"، وعند محمد البهي في كتابه "حياتي في رحاب الأزهر"، سيرة للمكان من خلال أجيال مختلفة.
ترصد المذكرات لحظة ظهور المنفلوطي، عندما أشرق أسلوبه على وجه صحيفة المؤيد، وإعجاب القراء بهذا الفن العجيب، وترقب هؤلاء الفتية الأزهريين، صحيفة المؤيد يوم الخميس، ليقرؤوا مقال المنفلوطي، وطه حسين مرهف أذنيه، وزناتي مسبل عينيه، والزيات مأخوذ بروعة الأسلوب، وكلهم يودون لو يتعرفون على هذا المنفلوطي، إلى أن ترجم الزيات رواية "آلام فرتر" عام 1920، وكان المنفلوطي صاحب العبرات يومئذ بلغ الغاية في الشهرة، وبلغة أيامنا كانت كتب المنفلوطي من الكتب الأكثر مبيعا في العشرينات، وطلب المنفلوطي لقاء الزيات، ويرسم لنا الزيات وصفاً ممتعا لهذه الشخصية.
تستمر المذكرات بالسير بنا لمعرفة تفاصيل حياة الزيات، نراه في قاعة الدرس يعلم التلاميذ ويصف أول درس ألقاه على مسامعهم والرهبة التي شعر بها في بداية عمله مدرساً في مدرسة الفرير بالخرنفش عام 1907 وبقي فيها إلى سنة 1914، وعن تجاربه في تدريس اللغة العربية، ثم مشاعره وهو مرعوب من القبض عليه من الإنجليز في فترة ثورة 1919، وهو يجلس مع أحد قادة التمرد يوسف الجندي، وعن إخفاء الزيات المسدس الذي يحمله صديقه في القفطان الأزهري ذي الجيوب الخفية، ونجاتهما من القبض عليهما بفضل هذا القفطان المبارك. وكان نصيب الزيات من المشاركة في ثورة 19 مراجعة المنشورات السرية، وتحرير الخطب العلنية لمن يلقيها.
يشرح الزيات لماذا ترجم "آلام فرتر" لجوته وعن نزعته الرومانسية التي وجهته لهذا النوع الأدبي وترجمته"رفائيل" لامرتين، ثم ننتقل معه لنتعرف على ذكرياته في باريس التي سافر إليها عام 1925، ليؤدي امتحان الحقوق وليحصل على الليسانس من جامعة باريس، ثم نرتحل مع الزيات وهو في العراق حيث سافر إلى بغداد للتدريس بها، ونرى ذكرياته بها ويكتب الزيات عن أول الأشخاص الذين التقاهم في العراق الشاعر جميل صدقي الزهاوي، وعن شكوى الزهاوي المتكررة من جحود الأمة وإغفال الدولة وكيد الخصوم، وإلحاح المرض، وكانت مواضيع الزهاوي في كل لقاء مع الزيات لا تخرج عن أحاديث الأنا.
تساعدنا تلك المقالات التي يسرد فيها الزيات ذكرياته في العراق على معرفة الشخصيات المرموقة التي التقى بها، وأسباب اتصاله بالقصر الملكي في العراق، ونراه يصف صيف العراق وصفا يشعرك بالقيظ ويحسسك بالاختناق والرطوبة، وعن مساءات النزهة على شاطىء دجلة، وهو يتعجب كيف ازدهرت حضارة العباسيين في هذا القيظ الطويل، واستبحر عمرانهم في هذا الخمود الملازم للحر.
لا تكتفي المقالات بذكر أحاديث العراق السياسية بل نقرأ عن قصة غرامية للزيات مع نورا الفتاة العراقية، في وصف مسهب يرق فيه قلم الزيات وتشب عاطفته ليصف بأسلوبه الأخاذ هذا الحب الرومانسي الذي كان مؤنسا له في ليالي بغداد، ولا ينسى أن يخبرنا أنه يسهر على دجلة، يأكل السمك المسقوف، ويتفكه بالبطيخ المبرد، ثم يقضي العشية في زورق يهدهده ساعة أو ساعتين على ظهر النهر الخالد، وقضي في هذه العلاقة العاطفية التي يسميها نشوة صوفية أحد عشر شهراً، لا يسأل القدر المقدور متى يفيق منها، ولا كيف ينصرف عنها، ثم نفجع في نهاية الفصل بقصة فقدان الزيات كتابه "العراق كما رأيته" الذي كتبه عن سنواته في العراق وعن ضياع كتابه، وعن الحزن الشديد الذي أصابه بضياع هذا الكتاب العزيز عليه.
كلما مررت على صفحات الكتاب اقتربت من حياة الزيات أكثر، ترى رثاءه لابنه رجاء وحزنه عليه وقد توفي وهو طفل، ثم حديثه عن أثر ظهور الراديو واختفاء الشاعر والقصاص من المجالس، وعن الحزن الذي أصابه بعد حرب 48 وتوقفه عن الكتابة وعن شعوره بالاكتئاب بسبب الوضع في فلسطين.
تلتقط المذكرات لحظة تفكير الزيات في إنشاء المجلة الأدبية التي سماها "الرسالة" بعد عودته من العراق، ودعوته لطه حسين أن يشاركه هذا المشروع واعتذار طه حسين بأسباب يشرحها في الكتاب، وعن الإقبال الذي حدث على مجلة الرسالة حتى إن مصطفى أمين عندما عاد من جولة طويلة في البلاد العربية قال: "لو أغلقت الحكومة المصرية عشر سفارات وأبقت مجلة الرسالة لكان خيراً لها وللعرب!".
قضى الزيات قرابة ثلث عمره، في إدارة هذه المجلة المهمة، حتى وصلت هذه المجلة إلى عشرين مجلداً ضخماً، ويحكي لنا وديع فلسطين أن الزيات كان يقضي يوماً كاملاً في الاعتكاف متى شرع في كتابة مقاله الافتتاحي لمجلة الرسالة، يكتبه وينقحه، ويتأنق فيه، ثم احتجبت الرسالة بعد عشرين عاماً كانت ملء السمع والبصر ودارت فيها أشهر المعارك الأدبية، ولم يكن من عادة الزيات المشاركة في المعارك الأدبية، ويشرح الزيات في المذكرات ظروف إغلاق المجلة مثل تخلي الدولة عن الاشتراكات التي كانت تدعم مالية المجلة، وملاحقة الضرائب له، ويضيف الكاتب "وديع فلسطين" أن ضياع فلسطين في 1948 أفقد المجلة نصف قرائها، والسبب الآخر في رأيي تغير الجو الأدبي بعد ثورة يوليو، لقد تغير العهد السياسي ولحق به الجو الثقافي وانتشرت جرثومة في دنيا الثقافة أصابت المجلات الأدبية بالخمول والإغلاق مثل مجلة المقتطف، والكاتب المصري، والثقافة. حاولت الرسالة أن تعود عام 1963 لكن المشروع لم يستمر حيث أصبحت جزءا من الدولة، واختلف الجيل الذي شارك فيها في المرحلة الأولى، وتولى الزيات رئاسة تحرير مجلة الأزهر قبل وفاته.
عندما انتهيت من هذا السفر الجميل والرحلة الممتعة مع حياة الزيات متنقلاً بين عهود وذكريات مختلفة، شعرت أنني انتقلت بالزمن لعالم الزيات وعصره، لقد استطاعت هذه السيرة بفضل جامعها ومنسقها د.عبد الرحمن قائد القبض على روح عصر الزيات والتعرف على رجاله الذين صادقهم مثل أحمد شوقي والمازني والعقاد وعلي محمود طه وعاتكة الخزرجي وغيرهم. كل هؤلاء بعثوا من جديد بعد وفاة الزيات ب 52 سنة في هذه السيرة، ثم تمنيت أن أرى سيراً ذاتية على نفس الشاكلة من تراث كتبه المؤلفون عن حياتهم في الصحف والمجلات والحوارات، تجمع وتنشر حتى تسعفنا تلك النصوص لفهم تجربتهم والاستفادة منها.