ذاكرة مدينة: بين نبيل فوزي وأرسين لوبين

2020.05.02 | 00:01 دمشق

1200px-boekenwinkel_redu.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبالة دكان أبو بدر مباشرة وأسفل البناية التي يسكنها إبراهيم الجندلي، بسيارته الحمراء التي كان الصبي يحسده عليها، دكان عتيقة مستطيلة الشكل، بباب خشبي حائل اللون، يتوسطّه زجاج تكاثف فوقه الغبار حتى بات لونه مزيجا من البني والرمادي، لا يشفّ عما في داخل الدكان. إنها مكتبة أبو محمود، وهي أوّل مكتبة عرفها الصغير وتعامل معها.  كان أبو محمود يكدّس كتبه العتيقة على رفوف واطئة وسط الدكان، بدون ترتيب ولا تنسيق. ويجلس هو في صدر الدكان على مرتبة واطئة على الأرض، كالحاكم بأمره، وفي يده دوما كتاب يقرأ فيه.

كان الصغير يتعجّب من قدرة أبي محمود على معرفة أماكن وجود أي كتاب يطلبه زبون. فما إن يسأله سائل عن كتاب ما، حتى يمدّ يده إلى كدسة معينة من الكتب، فيمرر أصابعه عليها حتى تستقرّ على واحد بعينه.

لا يشبه أبو محمود أبا بدر في شيء، سوى في الهرَم واللفة الصفراء التي كان يعتمرها، ومع ذلك كانا يبدوان للصغير وكأنهما أخوان توءمان نسيهما الموت فهرما حتى عمّرا دهرا. كان أبو بدر صغيرا، ضئيل القامة، رشيق الحلكة رغم سنّه، بينما كان أبو محمود أطول كثيرا وأميل إلى النحافة، حتى يتهيأ للصبي إذ يراه وهو ينهض من قعدته أنه قد ينقصف نصفين في أي لحظة.  ولم يكن الرجل ودودا كأبي بدر، ولا كان وجهه يعرف الابتسام، وكان رغم ولعه الكبير في الكتب يضيق بالزبائن ويرجو لو أنهم لا يطيلون البقاء في دكانته.

وكان الصغير يتعجّب من قدرة أبي محمود على معرفة أماكن وجود أي كتاب يطلبه زبون. فما إن يسأله سائل عن كتاب ما، حتى يمدّ يده إلى كدسة معينة من الكتب، فيمرر أصابعه عليها حتى تستقرّ على واحد بعينه، فينسله من بين الكتب بسرعة، دون أن يتأذى ترتيب الكتب الأخرى.

وكانت الكتب في معظمها كتبا مستعملة، قُرِئت عشرات المرّات وأعيدت إلى أبي محمود. وأغلبها في التفسير وبحوث القرآن والسيرة، غير أن أبا محمود كان يحتفظ أيضا بعالم من الفتنة، على هيئة مجلات مصوّرة. وكلّما توفّر للصغير بضعة قروش في أيام الصيف، حين تمتدّ ساعات الظهيرة إلى ما لا نهاية، ويكون الولد في عطلة من دروسه، كان ينسلّ إلى دكان أبي محمود، فيستأجر واحدة منها، ويعود إلى البيت، فيأخذ من الثلاجة خيارة أو اثنتين، ثمّ يذهب إلى سريره، يتابع الصور المسيطرة في المجلة ويقضم خيارته بمتعة.

بدأ غرامه في مجلات الأطفال مع مجلّة ميكي المصرية. وكان في البداية يجد صعوبة في فهم الكلام باللهجة المصرية، ولكنه عشق بشكل خاص بطوط وأولاد أخيه الثلاثة وعمه "دهب" الموغل في البخل.  ثم مرّ على مجلة "سمير"، لكنه لم يحب كثيرا دروسها الأخلاقية وحكاياتها المسلسلة، وبدا له سمير وصديقه "تُهْتُهْ" شخصيتين سمجتين قليلا وتميلان إلى الوعظ. أما "باسل الكشاف الشجاع" فكان ينقصه الوهج وخفّة الدم، ولكنّه أحب تنابلة الصبيان قليلا.  بالمقابل، كانت حكايات "ميكي" قصصا مصوّرة كاملة، لا تقطع بك السبل وأنت في منتصفها.  ثمّ تعرّف على مجلة "سندباد" التي كانت قد توقفت عن الصدور قبل تعلّمه القراءة، ولا يزال يتذكر بحيادية صورة سندباد الصغير، حاملاً عصاه وصُرّتَه ومنظاره الصغير وخلفه «نمرود» كلبه الذي يرافقه في رحلاته، باحثاً عن أبيه "شاه بندر" التاجر المفقود.

ثمّ حدث ذات يوم أن التقى الصغير برجل خلب لبّه وسلبه عقله، رجل يستطيع الطيران كالعصافير، ولكن بسرعة تفوق سرعة الضوء فينتقل بالزمان عودة إلى التاريخ القديم أو استطلاعا للمستقبل، فيمنع الجريمة ويحقّق العدل في مدينته – مور: إنه سوبرمان.  كانت المجلّة ملقاة بإهمال على أرض الدكان، ولفت انتباه الصبي على غلافها رجل طائر بزي غريب ووشاح أحمر طويل، فرفعها عن الأرض وقربها منه، وراح يتأمل في الصور، ثم سأل أبا محمود إن كان يستطيع استئجارها. ذلك أنه ما كان يستطيع شراء المجلات من مصروفه الشخصي، فآثر أن يستأجر المجلات: خمسة قروش سورية للمجلة الواحدة. ويبدو أن أبا محمود كان – لسبب لا يدريه الصغير – يكنّ احتقارا خاصا لسوبرمان، فاقترح على الصبي أن يبقِي المجلّة بالخمسة قروش التي دفعها. أخذ الصبي المجلّة ومضى بها إلى البيت، فنَتَشَ من الثلاجة خيارتين كبيرتين واستلقى على السرير، يقضم منهما، ويلتهم الصور والحوار بنهم شديد.  وبذلك ولج عالما من السحر لم يكن يألفه من قبل. وبقدر ما كانت بطولات سوبرمان تأسر خياله، كذلك كانت تفعل حياته السرية كنبيل فوزي (كلارك كنت) وسعيه الدؤوب لكيلا يكتشفه حتى أقرب المقرّبين إليه، بمن فيهم رندة، المرأة التي تعشقه كسوبرمان ولا تكاد تأبه لوجوده كنبيل فوزي، زميلها المحرّر في جريدة الكوكب، أو صديقه المقرّب نديم حلمي. وسيقف قلبه عن الخفقان كلّما تعرّض سوبرمان لخطر الكريبتونيت الأخضر. وسيحقد على وهيب، رئيس التحرير البخيل الذي كان يرهق الجميع بالعمل ويعطيهم أقل الأجور، وسيقف شعر رأسه فرقا كلما نُفي أحد إلى منطقة الأشباح.

وفي يوم، سينقله أبو محمود إلى عالم آخر. نظر إليه بوجهه العابس وخُلْقه الضيّق، وقال له:

"ليش ما بتقرا شي مفيد يا ابني. شو بدك من هاي المجلات؟"

"صار لازمك شي جديد" وأعطاه الكتاب دون أن ينتظر منه ثمنا أو مقابلا. ثمّ حدث شيء لم يكن الصبي يتخيله حتى في المنام: مدّ العجوز يده المعروقة إلى شعره فسرحها بين خصلاته برهة.

أحس الصغير بنوع من الفخر وهو يرى هذا الرجل الذي نادرا ما كان يترك كتابه ليحدّث أحدا من زبائنه، يختاره هو ليحدّثه. ثم ازداد فخره وهو يرى العجوز الطويل يتحرك بقامته التي تكاد تنثني نصفين، ويمدّ يده لينشل من بين كدسة كتب عتيقة واحدا بغلاف بني وصورة بدون ألوان، ويقدّمه له.

وسيدخل الصغير لحظتها في عالم آخر من السحر، فيبدأ بالتعرف على سيرة عنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي. من بينها أحب عنترة وأحس بالتعاطف معه، خاصّة وأن بشرته هو تكاد تشابه بشرة العبد الذي بات فارسا.  وشعر بتعاطف مع الزير، ولكنه شعر بالحزن وهو يراه يبالغ كثيرا في الأخذ بالثأر. غير أن خياله ارتاح أكثر لشخص آخر: حمزة البهلوان. ولو سألتَه اليوم عن سبب ولعه بشخصية حمزة لما عرف الجواب، ولما تذكّر سوى لمحات غامضة كرؤيا بعيدة عن حلم كسرى بفارس يقبل عليه، مشهراً سيفه، فيختطف منه إوزّة كان يأكلها. وحين يسأل وزيره وقد نال منه القلق، يجيبه الأخير أن فارساً يظهر في أرض الحجاز سيدخل إيوانه وينتزع منه ملكه. ولعلّ رغبة حمزة في أن يقيم العدل يحقّق الخير لغيره هو ما أعطى هذا الفارس الأسبقية على عنترة والزير وأبي زيد.

وذات صباح، في يوم شتوي بارد، اختفى أبو محمود. جمع كتبه، وقرّر أنه قد آن له أن يرتاح في بيته. كان الصغير عائدا من مدرسته وقت الظهيرة لتناول الغداء، حين رأى عاملا أو اثنين يحملان الكتب في أكياس من الخيش ويضعونها في عربة كارو يقودها حصان صغير، أحس بشيء يفارق صدره. لم يكن الصغير يحب التغيير ولا الوداع ولا الرحيل. وحاول أن يكلم أبا محمود، ولكن الأخير كان مشغولا بالإشراف على تحميل الكتب ووداع "كبارية الحارة".  فقط عندما ألقى نظرة أخيرة على دكانه التي باتت أرضا يبابا، ووثق من أنها باتت خالية من كلّ شيء سوى التراب والوحشة، وكان على وشك أن يركب العربة قرب العربجي، حانت منه التفاتة إلى الصبي الذي كان يحاول بقامته القصيرة أن يتطاول ليظهر له نفسه، فتوقف قليلا، ونادى الصغير، ومدّ يده إلى أحد الأكياس واستخرج كتابا صغيرا نحيلا، عليه صورة رجل وسيم وأنيق، يرتدي بدلة توكسيدو وقميصا أبيض بقبة عالية وربطة عنق فراشة بيضاء، وتحتها عنوان "أرسين لوبين: اللص الظريف."، وقال العجوز للصبي:

"صار لازمك شي جديد" وأعطاه الكتاب دون أن ينتظر منه ثمنا أو مقابلا. ثمّ حدث شيء لم يكن الصبي يتخيله حتى في المنام: مدّ العجوز يده المعروقة إلى شعره فسرحها بين خصلاته برهة، وقال له:

"أنت ولد ذكي. دير بالك ع حالك."

ثمّ مضى، وأوغل في الغياب والنسيان، وما عاد في الحارة من يتذكّره سوى الصغير وجاره أبو بدر الذي كان يقضي معه أحيانا بعض الأوقات.

بعد سنتين، مرّ الصغير على دكانة أبي بدر يشتري لبنا لأمّه، فبادره العجوز:

"بتعرف مين مات؟"

"لا. مين؟"

"أبو محمود.. عطاك عمره مبارح. الله يرحمه."

وأحس الصغير بشيء ما ينْشَلِع من قلبه الصغير. لم يقلّ شيئا. حمل زبدية اللبن وعاد إلى البيت، فأعطى اللبن لأمه، دون أن ينبس بحرف، ثمّ بَحْبَش في دُرج كان له، فأخرج رواية أرسين لوبين وشرع يقرأها من جديد.

كلمات مفتاحية