icon
التغطية الحية

دُلّـنا إلى نجاتنا.. يا نهر

2022.09.19 | 08:04 دمشق

شعر
(لوحة: أليكسي سافراسوف)
+A
حجم الخط
-A

قد تراود الإنسان أحلام غريبة، لا تتفق وظروف حياته. كحلم السقوط من شاهق لدى طفل صغير لمّا يغادر قريته ذات السقوف الواطئة، وحلم الغرق في مناطق لا بحر فيها أو نهر، كحال سهل حوران الذي أدركته وقد بخلت سماؤه، فجفت أنهاره ووديانه. ينظر البعض للأحلام على أنها احتمالات للرؤية فتكون بشيراً أو نذيراً، كما يرى التحليل النفسي في الأحلام مرآة للاوعي. أما الريفيون فعلاقتهم بالماء والسماء تتجاوز ذلك كله.

يشقّ (وادي الدجاج) طريقه وسط قريتنا قادماً من جبل العرب، وسُمّي بهذا الاسم لكثرة ما قتل من دجاج بسبب فيضانه أيام الشتاء، مخلِّفاً وراءه بركة كبيرة جنوبي الجامع الكبير، لكنه لا يزيد الآن عن شقّ متعرّج جافّ تملؤه الشوكيّات وأكياس البلاستيك، وتتّخذ القوارض من مجاريه تحت الجسور الصغيرة مساكن آمنة. حيث لم تعد السماء تقايضنا الدمع والعرق إلا بالنزر اليسير من الماء. فغرسنا حديدنا في جسد الأرض التي حفظت سلالاتنا لقرون، وفتحنا منافذ إلى قلبها الطيب. لذلك نسقط في أحلامنا إلى حضن أمّنا ونغرق فيه. من هنا نفسّر السقوط بالخصب والغرق بالوفرة. أما أصحاب نكتة "الحوارنة يطالبون بحقوقهم: يريدون بحراً في درعا" فلا نأخذ عليهم جهلهم بمدى ثقتنا بالأرض، التي نسميها أم اليتامى، وأن ماءها لم يخذلنا يوماً.

لكن، هل شدّنا البئر إلى الـ (تحت)؟َّ

تقول مخطوطة فرعونية: "كم هو مملّ عمل الفلاح"، ويقول فرج بيرقدار في (قصيدة النهر):

سرَّحتُ أسئلتي

وكان النهرُ فاتحةَ القصائدِ

صافياً كالحزن في الأعراس.

علَّمني البلاغة والغموض

وظلَّ جرحاً ذاهل الإيقاع

منتشياً بما يمضي إليه

من المعاني

واشتقاق الصمت

والجريان.

من ليس نهراً

أين تذهب ضفتاهْ؟!

أيّ نهر سيدلّنا إلى أول الشعر؟ نحن العصاة الذين ننضح الماء بالمحركات الميكانيكية لنملأ خزّاناتنا المعدنية. لا (عاصي) لنا يعلّمنا البلاغة، وقد جرّدتنا السلطة من الينبوع والشلال. أين نحن بين الجريان والركودة، بين الصحة والحياة في "وجعلنا من الماء كل شيء حي" والمرض والموت في الماء الآسن، بين التجدد في "لا تستطيع القفز في ذات النهر مرتين" والتشبث بفوهة البئر؟ لذلك صدّقنا، ككل المؤمنين الطيبين، وعد الله بالأنهار.

النبع والنهر والجريان في جسم كل إنسان، يدركها إذا مسّ قلبَه الضوءُ، فتصبح كريات دمه أسماك ملونة، وحواسه ضفاف، وأفكاره أشجار. من هنا يصبح النهر مرآة النرجس والشاعر، أحدهما ينظر إلى شكله، والثاني إلى ذاته، تقول نارين ديركي في قصيدة (أغنية النهر):

أرحل إلى لا مكان

حيث كوْنٌ أعزل ونهر وحيد

أجلس على الضفتين

أنفخ فأرتعش أنا والكلمات

ويغنّي النهر

ذلك الصوت الجميل يتغلغل في نسغي

فأصير نهراً

ترتعش مياهي

ثم تكون الأشجار.

 كذلك السيرورة نهر الأحداث التي تنسج السيرة، والزمن نهر، فلا يستطيع أحدنا أن يعيش ذات التجربة أو اللحظة مرتين. من هنا يأخذ النهر رمزيته، فيكون له حضوره القديم في الأدب وفي الشعر خصوصاً، كالمقطوعة الواردة في (قصة الحضارة) من زمن الأسرة الفرعونية التاسعة عشرة:

إن غرام حبيبتي يقفز على شاطئ الغدير

وفي الظلام تمساح رابض؛

ولكنني أنزل إلى الماء وأواجه الأمواج،

ويشتد بأسي فوق الغدير

ويكون الماء والأرض تحت قدمي سواء،

لأن حبها يملأ قلبي قوة.

ليأتي محمود حسن إسماعيل، على سبيل المثال لا الحصر، بعدها بآلاف السنين، ويقول قصيدته الشهيرة (النهر الخالد) التي لحّنها وغنّاها محمد عبد الوهاب:

مسافر زاده الخيال

والسحر والعطر والظلال

ظمآن والكأس في يديه

والحب والفن والجمال

شابت على أرضه الليالي

وضيّعت عمرها الجبال

أمّا ميخائيل نعيمة -وهو أحد رواد النهضة والتجديد إذ كانت أولى مقالاته "فجر الأمل بعد ليل اليأس"- فقد استخدم النهر كرمزية لحتمية الانبعاث من جديد، ومفارقة بين القيد والحرية، وبين القدرة والعجز، وبين الخصب والجدب، في تبدّل الحال بين الشتاء: النهر المتجمد، وبين الربيع: النهر الجاري. يقول أولاً:

بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانع في الطريـق 

واليومَ قد هبطتْ عليك سكينة اللحدِ العميـق 

ما هذه الأكفان؟ أم هذي قيـود من جليـد 

قد كبَّلَتكَ وذلَّلَتـك بها يد البـرد الشديـد؟

ثم يردف:

لكن سينصرف الشتا، وتعود أيـام الربيـع 

فتفكّ جسمك من عقال مكّنته يـد الصقيـع 

وتكرّ موجتك النقية حرّة نحـو البحـار 

حُبلى بأسرارِ الدجى، ثملى بأنـوار النهـار 

لكنّ للأنهار وجهاً آخر، فهي الهادرة، مولّدة التيارات الغادرة، ساحبة أجساد السبّاحين إلى حلزونها، لتلفظهم بعد مسافة جثثاً على ضفافها. وهي، كما تُرضع الزرع إذا راقت، قد تخنقه بزبدها إذا هاجت، فتمحق الأرزاق، وتطمر بيوت الطين، وتلوك الناس كالقش في رغائها؛ لذلك وقعٌ في ذاكرة جيران الأنهار. وقد كاد نهر دجلة يغمر بغداد سنة 1954، فيعيث فيها خراباً. لكن نازك الملائكة رأت في جنونه وجموحه أمارة عشق واضحة، وعزت كل ما يفعله لدافع الشوق والحنان. لعلها تسحبنا بقصيدة (النهر العاشق) من احتمال الفاجعة، فتكون وفية للنهر أكثر منها حانقة عليه. ولعل في ثنائيات: القرى-النهر، المدينة-النهر، انعكاس لانصياع المؤنث للمذكر، وخصوصاً في مجتمعاتنا في ذلك الوقت. لكن، هل كانت ستقول هذا لو نجح دجلة في هجومه؟

إنه يعدو ويعدو

وهو يجتاز بلا صوت قرانا

ماؤه البني يجتاح، ولا يلويه سدّ

إنه يتبعنا لهفان أن يطوي صبانا

في ذراعيه، ويسقينا الحنانا

***

أين نعدو، وهو قد لف يديه

حول أكتاف المدينه؟

إنه يعمل في بطء وحزم وسكينه

ساكباً من شفتيه

قبلاً طينية غطت مراعينا الحزينه

على النقيض منها تماماً كان موقف بدر شاكر السياب، حيث ربط بين النهر والموت، وفي ذلك غرابة لا تقل عن غرابة ما ذهبت إليه نازك الملائكة. في قصيدة السياب، على سهولة مفردتها، فتحٌ أوسع لباب الدلالة يشبه كثيراً الفتح في (قصيدة النهر) لفرج بيرقدار، حيث قصدا النهر بذاته، وقصدا نفسيهما إذ يفتتح البيرقدار قصيدته: "قالني النهر، أم قلته.. ليتني كنت أدري"، وقصدا الزمن كذلك، والأحداث التي مرت على الوطن. في تصوير أنيق يشبّه السياب أصوات المعتقلين في الأقبية بصليل الحصى في القاع، ويصبح كل شيء معدنياً حتى أصوات العصافير، ثم يشبّه عمال الليل بالأسماك الساهرة، والنسوة في انتظارهم بالنجوم التي تحيك رداء الليل الحريري، فيصير النهر غابة من الدموع:

أود لو أخوض فيك.. أتبع القمر

وأسمع الحصى يصلّ منك في القرار

صليل آلاف العصافير على الشجر.

أغابة من الدموع أنت، أم نَهَر؟

والسمك الساهر هل ينام في السحر؟

وهذه النجوم هل تظل في انتظار

تطعم بالحرير آلافاً من الأبر؟

لقد تبدّلت أحلامنا في المنافي، فما عدنا نسقط أو نغرق. كثيراً ما أرى نفسي في القرية أو في دمشق، بلا (هوية شخصية)، مطارداً من عناصر الأمن، حيث لا ملاذ أو رفاق. إنه نهر آخر نضطرب في لجّته، لعله نهر الخوف. وهل يكون المنفيّ إلا خائفاً؟ صار الماء طريقنا إلى الماء؛ عدونا وصديقنا في آن، نخشاه ونسلمه رقابنا بكامل رغبتنا في الخلاص.. ولا خلاص. إنها أغنية أخرى للنهر، يحفظ لحنها ويجيد رقصتها شاعر ضالع بالماء حدّ التقمص. وهو إذ يدرك النهر، رؤوفاً وقاسياً، لا يحمّله إلا رجاء أخيراً لأجل مَن يركبون موجه بلا حول أو قوة، لكن النهر لا يستجيب دائماً.

أغنية النهر لغسان زقطان:

من جهة النهر

كانوا يعيدون نفس الترانيم

الترانيم كانت تذكرني دائماً

بالضباب الذي يصعد النهر

يلقي بأشباحه في الحقول وأقنية الري

من جهة النهر جاء جنود مشاة

وألقوا هزيمتهم نحونا

بعدهم جاء رتل بأوسمة النصر

في آخر الرتل قتلى كثيرون

كانوا يعيدون هذي الترانيم للنهر

***

يا نهرُ.. يا نهر

خذ أهلنا للشمال

أعنهم على الجوع والبرد والريح

خذ صور الميتين

وخذ خبزهم

قد يجوع المهاجر

خذ معهم صمتهم في العشيّات

لمّا تنام الطيور وتسعى المفاتيح

يا نهر.. يا نهر

كن دافئاً حين يعبر أطفالهم ليلاً كالحرير

ومتئداً كالوصايا

كريماً كما يفعل الجسر