icon
التغطية الحية

دَوْر المال في فساد الأدب والعالم.. قراءة في كتاب حنّا عبّود (من حديث الفاجعة)

2021.08.24 | 06:29 دمشق

hna_bwd-_tlfzywn_swrya.png
محمد علاء الدين عبد المولى
+A
حجم الخط
-A

ما أهمية النَّقد في حياتنا الثقافية والإبداعية إن لم يقدّم رؤى جديدة قادرة على إعادة صياغة هذا الواقع، وإن لم يكتشف آفاقاً لم تكن معلومةً لدينا، من أجل ارتيادها وجعلها جزءاً من علاقتنا مع العالم والكتابة؟ ما أهمية ناقدٍ لا يستطيع الدّخول في المناطق المجهولة لاستثارة طاقتها الكامنة فيها واستثمارها في التفكير الأدبي والإبداع؟

قد تراود مثل هذه التّساؤلات القارئ كلما انتهى من قراءة كتاب نقدي للناقد السوري والمترجم حنّا عبّود. ولا بدّ أن يجد القارئ إجابةً وافيةً على هذه التّساؤلات في كتاب حنّا عبود. فهو مثال النّاقد الّذي يكتشف دائماً طرقاً جديدة لطرح مشكلات الواقع الأدبي مثل وظيفة الأدب والأسطورة، دور الاقتصاد السياسي في تأخير الأدب، وما هي البدائل لذلك.

وقد صاغ حنا عبود منذ سنواتٍ ما سّماه نظريّة الاقتصاد الأدبي في مواجهة الاقتصاد السياسي لإعادة الاعتبار للإبداع والأدب. وها هو في كتابه (من حديث الفاجعة: دراسة في مسرح جنون الثروة) يواصل التّنقيب في طبقات هذه النّظريّة التي ما زالت تتفتّح عن مفاهيم مهمّة، وتعطي مفاتيح جوهريّة تفضّ كثيراً من مغاليق الأسئلة ، وتطرح كذلك أسئلتها الخاصّة بها. ويزداد القارئ قناعة بأن هذا النّاقد يتضّمن في أعماقه مبدعاً حقيقياً يصنع له بوصلةً شعرية جماليّةً تشير دائماً باتجاه تركيز البحث في قيم الأدب العُليا، وتشير كذلك إلى ضرورة اعتبار الأدب وما يتّصل به خلاصاً حقيقيّاً للإنسان في العالم الذي تتحكّم به فئاتٌ لا أصول لها ولا مطامح خارج مطامح تجميع الثروة والإصابة بما يسمَّى بجنون الثروة المنتشر في أوساط فئات مُحْدَثي النّعمة.

لقد وضع الناقد عبّود يده النقدية تماماً على موضع الجرح من دون أي مواربة، فيما هو يستقرئ الأسباب التاريخية الحقيقيّة لتأخرّ الأدب وانحلاله وتدهور طبيعتِه عبر تحوّلها إلى عنصرٍ هامشيّ مهملٍ في ماكينة الثروة وهستيريّتها المجنونة. وذلك عندما تصعَدُ في مجتمعٍ ما فئاتٌ (ولا يسميّها الناقد طبقات!) تهيّأت لها ظروف القوّة وانكسار ميزان القوى الاجتماعية والثقافية بحيث هيمنت على زمام الأمور وأخذت تفرز خطابها الزّائف في الاقتصاد والأدب والأخلاق. وهو خطابٌ -على أي حال- يُقصي الأدب وقيمه الجمالية الرّامية لأنه يبني مشروعَهُ المضادّ لها ولطموحاتها الرّاهنة والزّائلة، مشروعَهُ المتعلّق ببناء الإنسان كياناً حرّاً جميلاً فاعلاً في الحياة قادراً على الحلم دون قيود، خالقاً الآفاق البديلة لذلك الخطاب الاستهلاكي.

وعلى عادة حنّا عبّود في إرجاع الظّواهر الأدبيّة إلى جذرها التَّاريخي، فإنه يعيد هذه الظاهرة إلى اليونان، عندما كانت الطبقات الأرستقراطية هي التي تتولَّى الدّفاع عن الأدب والفن والرِّياضة، وتنفق  على كل ذلك وتوفّر جميع ما يمكن من مناخات صحيّة يبقى فيها الأدب في أرقى أحواله ونتاجه. وذلك يعود إلى أن اليونان رأوا في ازدهار الأدب والفنّ علامةً على قوّتهم وسيادتهم وتأكيداً لفاعلّيتهم الحضاريّة، معتبرين ذلك سلاحاً فعّالاً في مواجهة الآخرين. وقَدْ قدَّم اليونان في هذا تجربةً فريدةً ظلّت تكتمل وتتبلور حتّى ساهمت إلى حدّ بعيدٍ في خلق ما يسمّيه كثيرون "المعجزة اليونانية". وبقيت هذه التّجربة منارةً تأتلقُ حتّى أتى دور الفئات الصّاعدة الدّخيلة على الأرستقراطيّة، فئاتٌ بلا جذور ولا أصول ومن غير أحلام كبرى، حوَّلت الأدب عن مساره ورمتْهُ بضاعةً رخيصةً على هامش الحياة. لأنها لا ترى قيمةً خارج قيمة المال والثَّروة.

وهكذا تتكرُّر هذه الظّاهرة عبر اختلاف الثقافات والعصور. وها نحنُ في خطابنا نعاني من الأزمة الخالدة نفسها: تفسّخ القيم الجمالية العالية، وهجوم الدّخلاء مجانين الثروة والسّلطة على معبد الأدب لتدنيسه وإفراغه من محتواه. إن محدثي النِّعمة ليس عندهم تقاليد تنظم علاقاتهم مع الأدب والمبدعين، وينظرون إلى هؤلاء على اعتبار أنهم من مخلَّفات التّاريخ، في الوقت الذي نرى ألاّ تاريخ خارج سيادة هؤلاء وقيمهم ومفاهيمهم وآمالهم، فهم الذين يقومون بالمحافظة على روح أمّةٍ من الأمم. وهم لا يستطيعون القيام بمهمّتهم في ظلّ سيادة أخلاق السّوق والانتهازيّة والمصالح الرّاهنة، إنهم يبحثون دائماً عن النُّبل المفقود يستمدّون منه أكبر محرّضٍ على الإبداع. النُّبل والأخلاق العالية في المجتمع تجعل الإبداع على أتمّ شكلٍ من العطاء والازدهار. لكن عندما تتفشَّى أخلاقيات اللَّصوص وجامعي الذّهب وصانعي الحروب الدَّاخلية والخارجيّة، فسوف تتراجع روحانيّةُ الإنسان وتصاب بالفساد والمرض، وسيصبح الأدب فاسداً على يد بعض من الّطفيليّين الذين ابتسم لهم الحظُّ في لحظة تاريخية انتهزتها فئاتٌ كانت محرومةً معدمةً، هبطت عليها فجأة السُّلطة والثَّروة، فأفرزت أدباءها وكتّابها لكي يكملوا الدّور الانتهازيّ الذي تلعبه هذه الفئات . وبذلك يصبح كل شيء قابلاً للفساد، وتلك هي الطّامّة الكبرى، حين يصل الفساد إلى كيان الأدب.

إذاً، لابدّ من تمثّلِ تجربة اليونان في دلالتها العميقة وفيما تشير إليه من إمكانيات وطاقات، وليس في حرفيتها، من أجل البحث الحقيقيّ عن سبل خلاصٍ طالما شقيت الروح البشرية في البحث عنه، ولن تجده خارج هذا الكون الهائل من الإبداع والجمال.

إنّ أهمّ درسٍ يمكن للقارئ أن يلتقطه من كتاب حنا عبود (من حديث الفاجعة) هو ضرورة العودة بكتابتنا وإبداعنا وفكرنا إلى لحظة الأصول والقيم. وأن نطلق العنان لحركة أقلامنا وتصوّراتنا وإبداعاتنا، لا أن نطلق العنان لنوعٍ من الكتابات الفارغة من أي متعة ولا تحريضٍ على الجميل والرّائع واللّذيذ. ها نحن نراقب واقعاً أدبيّاً عالميّاً وعربيّاً، فتزداد لدينا الغربة عنهُ والجفاء بيننا وبينه. لأنه أدب هجينٌ، صعد فجأةً في المناطق المليئة بالرّطوبة والعفن، وساد نوع من الأدب يأخذ الإنسان إلى التّقزّز والانحلال بدل أن يصعد به إلى عناق الكون والفرح في نشوةٍ عُليا. فلنعد إلى الفردوس المفقود حقّاً وهو (الأدب) ولنعمِّقْ علاقاتنا مع الواقع والكون بالصّيغة التي يبقى فيها الأدب إنسانيّاً، صافياً، موازياً للرّوح وأحوالها وآفاقها. إن لم يفعل المبدعون ذلك، فمن ننتظر للقيام بهذا الدّور؟

نقف الآن عند نماذج شعرية يمكن اتخاذها دلالة على نظرية حنا عبود في كتابه هذا وفي غيره من الكتب المهمة. نبدأ بمقطع شعريّ لمحمود درويش سوف يضيء لنا ملخص أطروحة حنا عبود التي قدمها في كتابه هذا وفي غيره. يقول درويش في قصيدته (بيروت) من ديوان حصار لمدائح البحر:

وأصرخ في أثينا: كيف تنهارين فينا؟

ثم أهمس في خيام البدو :

وجهي ليس حنطيّا تماما والعروق مليئة بالقمح…

أسأل آخرَ الإسلام :

هل في البدء كان النفطُ

أم في البدء كان السخطُ؟

في المقطع ثيماتٌ ربما تبدو غامضة لمن يقرأ الشعر بكسل واسترخاء. لكن درويش يعطي مفاتيحه الغامضة لقارئ ذكي مثقف لا يكتفي بالنص الظاهر بل يفتش في العلاقات بين الكلمات وما تحيل إليه من سياقات كبرى. مثلا: أثينا وانهيارها فينا هنا تلخص أطروحة كاملة حول الموضوع الذي عالجه حنا عبود في كتابه. أثينا هي رمز الحضارة اليونانية من فلسفة وشعر وفنون وسياسة وجماليات. وهي هنا (تنهار فينا) دلالةً على تراجع العامل الحضاري الجمالي الفلسفي الشعري في حياتنا ليس كفلسطينيين وحسب (بحسب اللحظة التاريخية للقصيدة) بل كعرب وشرقيين معاصرين انهارت فيهم أثينا بما هي ثيمة للحضارة والعقل والجمال. وتركت الساحة للنفط والمال والبروج الخالية من الجمال العفوي الشعري. لهذا يسأل الشاعر: هل في البدء كان النفط أم السخط؟ كيف لا نسخط على انهيار الحضارة فينا؟ كيف نستسلم لعصر النفط والاستهلاك والمادة؟ أين الروح في العالم؟ أكله صار عبدا للمال والبنوك وسياساتها؟ نحن عروقنا مليئة بالقمح على قول درويش، أي نحن أبناء الأرض والطبيعة والحياة، فكيف تنتهي بنا الحال إلى هذا المآل لنغدو رهائن للمادة؟ حينها سوف تسقط البلدان والقيم كلها.

 

26070716._SY475_.jpg

 

في القصيدة نفسها يعالج درويش أزمة المدينة العربية الكبرى (بيروت) الخاضعة لحسابات البنوك وتدفق المال الحرام بما يعنيه من ازدهار للسلاح والموت والقتال بين الأخوة. يركز درويش كما لم يفعل أي شاعر في عصره على الجانب القبيح للمدينة الجميلة. إنه يرثي أثينا ليصل إلى رثاء المدينة الحاضرة. والسبب نفسه: هيمنة المال وخطابه.

وإذا أخذنا نموذجا شعريا لشاعر غربي (أميركي) هو إزرا باوند، فسوف نحصل على شهادة مهمة من شاعر أستاذ ومعلم كبير في إدانة المال والربا والعالم الرأسمالي الذي يطيح بقيم الروح والجمال والشفافية. إزرا باوند كان مشهورا بهجائه للمال والبنوك والربا. كان يقدم خطابا مضادا لأميركا الرأسمالية التي ترى العالم أكداسا من المال وأبراجا من البنوك وصناديق النقد. لتتراجع في ظل ذلك حركة الخيال والبصيرة واقعةً أسيرة للحس المادي الجشع وحروبه وسياساته.   

والأهمّ في قراءة تجربة باوند هو ما اكتشفه النّاقد حنّا عبّود في سياق حديثه عن فضائل ما يدعوه "الاقتصاد الأدبيّ" في مواجهة السياسة، وما تعنيه من امتصاصٍ للإنسان وإثارة لوحشِ الدّمار في أعماق الإنسان. فحنّا عبّود يجد أن موقف باوند (الذي يمثّلُ الأدب والجمال) مختلفٌ عن موقف موسوليني (الذي يمثل الحرب والخراب) ومع زوال موسوليني، يبقى أدب باوند. يقول حنا عبود في كتابه (فصول في علم الاقتصاد الأدبي)  ص63: 

"لقد حقّقَ عزرا باوند شهرةً كبيرةً في عالم الأدب الحديث. ولا أظنّ أنّ أحداً منّا ينكر فضله في الشعر والنَّقد والأدب. لكنّ هذا الرّجل كان من أشدّ أنصاره حماسةً. إنه يشبه دانتزيو الإيطالي، إن لم يفُقْهُ اندفاعاً. سُجن وعُذّبَ وظلّ مُخْلصاً للدّوتشي، ويرى فيه مسيحيّاً مقاتلاً سوف ينقذ البشريّةَ. ومات عزرا باوند من دون أن يتزعزع إيمانُه بالدّوتْشي، الذي كان قد سبقه إلى العالم الآخر. مات عزرا في 1972، أي بعد ربع قرنٍ من موت الدّوتشي، وظلّ طيلة هذه المدّة مخلصاً لمبادئ الدّوتشي. واليوم نحن نتهافت على عزرا باوند ونتقزّز من سيرة الدّوتشي ومبادئه. ولولا الأدبُ لكنّا أنموذجاً للسُّخرية: نكره الدّوتشي ونعجب بنصيره المخلص. إنّ هذا النّصير المتحمّس مارس الأدب الحقيقيّ بكل جدارةٍ. ولو أنه جعل أدبه صدى لخطابات الدّوتشي لسقطَ سقوطَهُ. كانت خطابات الدّوتشي "كتابةً فنيّةً" حقّاً ألهبت المشاعر. ومع ذلك لا يجرؤ أحد أن يقول أنّ خطابات الدّوتشي تشبه كتابات عزرا باوند لا من قريب ولا من بعيدٍ".

 

7-impactantes-frases-de-ezra-pound.png
إزرا باوند

 

يقدّم حنَّا عبّود الموقف الباونديّ على اعتباره الموقف الأدبي الجماليَّ الخالد الذي يتحمَّس للسّياسيّ لكنه لا يقلّدُه، ولا يربط روح إبداعه بعجلته السياسيّة الهادرة. لم يمدحه في شعره، لم يوظّف الجمال في خدمة القُبح السياسي، كل ما في الأمر أنّ الشاعر اختار موسوليني رمزاً مضادّاً للأميركان. إنه الرّضا بالجحيمِ، وإن لم يكن جحيماً بالنّسبة إليه، وتفضيله على الموت الأميركي.

نختم أخيرا بهذا النموذج الشعري لشاعر سوري جديد هو فادي أبو ديب:

حين ينام المال سينام التاريخ وينتهي الأسبوع

ستنتهي استراحة السبت الطويل

ويظهر الوجه الآخر من القمر

بضع ساعات فقط...

حتى مطلع الشمس الجديدة.

من اللافت للنظر أن رؤيا شعرية من جيل جديد تنشغل بهذه القضايا الخطيرة والحساسة في العالم. مما يدل على أن هناك اجتهادا ثقافيا في قلب العمل الشعري يعطيه عمقا ودلالة تفوق الرسالة الشعرية التقليدية. يقول لنا نموذج فادي أبو ديب إن التاريخ سيرتاح من شقائه وينام هانئا حين ينام المال! حين يكفّ فعل المال عن التأثير في التاريخ فسوف يلتقط التاريخ أنفاسه ويشرق الوجه الآخر للقمر. حين ينام المال سوف تتاح فرصة نادرة لولادة شمس حقيقية. هنا يجعل أبو ديب المال في طرف كدلالة تناقضها دلالات المفردات المقابلة: القمر، الشمس. معاني الشمس والقمر هي بكل تأكيد معانٍ خلاقة إيجابية بعكس معنى المال. ثم إن الأهمّ من هذا أن ما يعرف باستراحة السبت (لاهوتيّاً) سوف تنتهي أي سوف يستعيد الإله دوره المكمل لدور الشمس والقمر في العالم. فهيمنة المال غيبتْ فعل الله الجميل، الذي لا حضور له إلا بغياب عناصر الفساد والإفساد.