دولة حزب الله الجديدة في بلاد الشام

2019.09.19 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما خرج أمين عام حزب الله حسن نصر الله، معلناً أن ردّ حزبه على الضربة التي تلقاها في سوريا قبل أكثر من أسبوعين، سيكون في لبنان. كان ذلك يؤشر إلى تغيّر جوهري في وجهة "الصراع". قبل سنوات، كان نصر الله قد أعلن بأنه من يريد أن يقاتله فليقاتله في سوريا. تماهى نصر الله في دعوته تلك، مع ما اجتمع عليه العالم بأسره بأن المعركة في سوريا، وليست في أي مكان آخر، التزم نصر الله بذلك، ولم يكن معانداً السياق العالمي الذي اعتبر هدفه هو تدمير سوريا. فلم يلجأ إلى مباغتة الأميركيين أو الإسرائيليين في جبهات أخرى، إنما التزم بما يريدانه وفق "سياقات اتهاماته" بأن ما جرى في سوريا هو مؤامرة لتدميرها، فالتزم نصر الله بهذه المؤامرة.

بعد الضربة التي تلقاها في سوريا، أعلن بأن ردّه سيكون من لبنان، وما يعنيه ذلك من تحولات في مجريات السياسة على الأرض، خاصة أن إعلان نصر الله نقل المعركة إلى لبنان، يأتي أيضاً متزامناً مع دخول لبنان ساحة التفاوض والتجاذب بين الأميركيين والإسرائيليين من جهة، والإيرانيين من جهة ثانية، فتشتد العقوبات، وتبدأ مفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل. نقل المعركة إلى لبنان، يمثّل أيضاً امتثالاً لرغبة أميركية

تلك الانسحابات تأتي بعد إنجاز المهمّة التي أدت إلى تمزيق سوريا وتهجير أهلها، وتحقيق رغبة إسرائيلية عمرها ستون سنة

روسيا بعدم استخدام الأراضي السورية لشنّ عمليات ضد إسرائيل، وهنا مبدأ التحول الكبير، الذي يترافق مع إجراء حزب الله للكثير من عمليات إعادة التموضع في سوريا، وانسحاب قواته من مواقع ومناطق أساسية.

تلك الانسحابات تأتي بعد إنجاز المهمّة التي أدت إلى تمزيق سوريا وتهجير أهلها، وتحقيق رغبة إسرائيلية عمرها ستون سنة. والمعادلة بسيطة وواضحة، فمن ينتصر في سوريا، يكون له الانتصار في المنطقة كلها، أولاً نظراً لموقع سوريا الاستراتيجي، وثانياً، نظراً لتركيبتها الديمغرافية المتنوعة، والتي تشكّل التهديد الأخطر لإسرائيل الأحادية القومية والمذهبية." فتحول سوريا بفعل الصراع إلى كانتونات طائفية ومذهبية وإثنية. هذا النوع من الفرز السياسي والعسكري والديمغرافي، يلبّي مصالح التيارات الراديكالية أو الإيديولوجية، ويوفر استمراريتها، في إطار حفاظها على مناطق النفوذ.

كما انطلق حزب الله من لبنان إلى سوريا، ها هو يعود من سوريا إلى لبنان. منطق توحيد الجبهات لا يزال نفسه هو السائد، منذ إعلان نصر الله عن توحيدها بعيد اغتيال سمير القنطار في الجنوب السوري، واليوم يعيد تجديد هذا المبدأ، بعد تعرضه لضربة في سوريا وأخرى في لبنان. لا تنفصل المشاريع السياسية عن الديمغرافيا والجغرافيا. وتوحيد الجبهات يحتاج إلى مناطق متجانسة ديمغرافية ومتصلة جغرافياً، وهذا ما نجح الحزب في إرسائه من الجنوب اللبناني باتجاه الجنوب السوري، ومن البقاع باتجاه وسط سوريا.

فمثلاً على السفح اللبناني من جبل الشيخ، طريق قديم يربط لبنان بسوريا، وهو عملياً كان خط التواصل الأساسي بين لبنان وسوريا في تلك الفترة الزمنية. وهذا الطريق يمثّل أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الحزب، في إطار ربط الجبهات، ولتسهيل عمليات نقل الأسلحة. يحاذي الطريق منطقة تعرف باسم دير العشائر، الذي يشكّل نقطة وسط والتقاء بين مناطق الجنوب اللبناني ذات الأكثرية الشيعية، الخاضعة لسيطرة كاملة من قبل الحزب، وبين البقاع اللبناني الذي أيضاً يعتبر عمقاً استراتيجيا لنفوذ الحزب على الرغم من وجود مناطق سنيّة عديدة معارضة لحزب الله ووجوده بشراسة، لكن القدرة العسكرية للحزب سمحت له "بإخضاع" هذه المناطق، ما سمح له بتسهيل عمليات الانتقال بين الجنوب والبقاع.

يسيطر حزب الله على العديد من الطرق التي تربط المناطق بعضها ببعض، من بينها المعبر الجنوبي الشرقي المؤدي إلى دير العشائر، التي يعمل الحزب حالياً على شراء الأراضي فيها وفي محيطها بنسبة مرتفعة، وهي تعتبر معبراً آخر استحدثه الحزب، من الجهة الشمالية الشرقية لوجوده الجنوبي، عبر المنطقة الواصلة بين الجنوب والبقاع الغربي، جنوب منطقة جزين. كما عمل الحزب قبل أكثر من عشر سنوات على شراء أراض بشكل واسع في تلك المناطق واستحدث طرقاً جديدة ومجمّعات سكنية، لتصبح المنطقة بكاملها خاضعة لسيطرته، وعبرها يسهل الانتقال من الجنوب إلى البقاع ومنه إلى سوريا. وهذا يقابله تهجير حصل للمناطق الحدودية من الجهة السورية، في القلمون وحمص.

السيطرة الجغرافية، مصحوبة بسيطرة سياسية كاملة في لبنان، تمكن حزب الله من إرسائها، وتجلّت مؤخراً في المعادلات التي رفعها حول الردّ والردّ المضاد على الضربات التي يتلقاها الحزب. وهي لا تنفصل عن استمراره في امتلاك العديد من أوراق القوة، مواجهة أو تفاوضاً، بقرارات دولية أم من دونها، وبالسيطرة السياسية والجغرافية على كل المفاصل اللبنانية. إيران التي تعمل على تشييد أوتسترادها عبر العراق إلى سوريا ولبنان، غايتها الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط من دون حواجز، حزب الله هو ذراعها الأقوى على شاطئ المتوسط، وهو الذي نجح في السيطرة على مناطق سوريا بكاملها وضمّها إلى سيطرته التي يحكمها على الجانب اللبناني من الحدود.

هذه السيطرة الجغرافية، والتي ترسخها إيران في شرق سوريا، وتحديداً في هذه المرحلة بالبوكمال من خلال التحالف مع العشائر وتأمين الطريق بين سوريا والعراق، بحاجة لمن يقابلها في لبنان، وهنا دور حزب الله، خاصة بالنظر إلى المشكلة التي أثارتها الكنيسة المارونية قبل أشهر عديدة، حول الخلاف العقاري على الأراضي والممتلكات وسعي حزب الله إلى شراء الكثير من العقارات في جرود جبيل وكسروان، كمنطقتي العاقورة وجرودها، ولاسا، في قضاء جبيل. جغرافياً، فإن الجبال، هي التي تفصل بين قضاء جبيل وبين قضاء بعلبك الهرمل، الخاضع لسيطرة مطلقة من قبل حزب الله. ويهدف حزب الله من شراء الأراضي في تلك المنطقة، إلى ربط كل هذه المناطق بعضها ببعض، من العمق السوري، إلى البقاع وصولاً إلى قضاء جبيل، الذي تقع عاصمة قضائه بيبلوس على البحر الأبيض المتوسط. وثمة من يشير إلى أن الهدف من ذلك، هو لقطع الأوتوستراد الدولي الذي يربط بيروت بالشمال اللبناني. ولذلك هدف آخر أيضاً وأساسي بالنسبة إلى إيران، الداعمة الأولى

أصبح حزب الله في شبه اكتمال لمشروعه ومهمته، التي يحتاج تتويجها إلى اتفاق أميركي إيراني، يعود الحزب بموجبه من سوريا إلى لبنان

والأساسية لحزب الله. تماما كما يسيطر حزب الله على الطريق الدولي من بيروت باتجاه الجنوب، ويحكم الطوق على منطقة جبل لبنان الجنوبي، بزعامة وليد جنبلاط، من خلال بناء مجمعات سكنية في محيطه، من جهة جزين وعلى الساحل في خلدة، وكل ساحل الشوف، ويكتمل الطوق من جهة البقاع. 

أصبح حزب الله في شبه اكتمال لمشروعه ومهمته، التي يحتاج تتويجها إلى اتفاق أميركي إيراني، يعود الحزب بموجبه من سوريا إلى لبنان، مع احتفاظ إيران بالكثير من مناطق النفوذ على الأراضي السورية وفق تفاهم ضمني مع الروس، مقابل أن يتسلم حزب الله السيطرة على لبنان بكليته السياسية والجغرافية، فتتكرر تجربة اتفاقية الخط الأحمر بين هنري كيسنجر وحافظ الأسد، ولكن هذه المرّة بين الإيرانيين والأميركيين، وكما سلّمت الدول بالوصاية السورية على لبنان، تسعى إيران إلى انتزاع تلك الوصاية، هذا المشروع الذي بدأ مع خروج الوصاية السورية في العام 2005، ويستكمل بتدمير سوريا، وإعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة.