دولة المائدة وأصحاب الشوكة

2022.09.11 | 06:04 دمشق

دولة المائدة وأصحاب الشوكة
+A
حجم الخط
-A

لم يعلُ شأن الطاهي ويرتفع ويشرف كما علا وارتفع وشرّف في الآونة الأخيرة، الشيف، لقب الطاهي في الغرب والشرق التابع، الشيف هو السيد الرئيس، أجور الطهاة في الفنادق الفاخرة أعلى من أجور أطباء القلب ومهندسي الإلكترونات والعرافين، لقد علا شأن المعدة عندما اختلطت موازين العقل، وانحطت فنون الكلام.

أمسى رؤساء الطهي وملوك الطبخ أشهر من المطربين والممثلين، تراجعت شهرة طهاة المعرفة من العلماء، ومدبّجي الحكمة من الأدباء، وصاغة القصائد من الشعراء. يقولون: إن الأرض تبدل كسوتها، أقاليم تحترق بالشمس، وأقاليم تغرق بالماء، زلازل وبراكين غاضبة تلفظها الأرض، البراكين شتائم الأرض الغاضبة للإنسان المفسد. سادت اللقمة وبادت الكلمة.

الطاهية التركي نصرت دوغشيه وله مشهد شهير وهو ينثر الملح على مائدة ولي عهد أبو ظبي، كما يفعل "ماتادور" الثيران في الحلبة الإسبانية، وولي العهد صامت خاشع

كانت التلفزيونات تستعين بالطهاة في رمضان قبل الإفطار، الطاهية سيدة تعرض مناسك طهي أحد الأطباق، يطول زمنها، مصحوبًا بموسيقا لطيفة، وأطباق ملكية لها أشكال فاتنة. فن الطهي هو المقادير والمثاقيل، ومع ظهور وسائل التواصل بات الطباخون والطهاة، ذكورًا وإناثًا ملوكًا لهم تيجان، الطهي أنواء وخطط حربية مثل الشطرنج، والطهاة يكيدون للشهية بنيران التوابل، ومغيرون يغيرون على الأذواق بنيران يوقدونها على منازل ودرجات ورتب، خذ مثالاً الرئيس براق التركي، الذي يستقبله الملوك، ويحرصون على الصور التذكارية معه. الطاهية التركي نصرت دوغشيه وله مشهد شهير وهو ينثر الملح على مائدة ولي عهد أبو ظبي، كما يفعل "ماتادور" الثيران في الحلبة الإسبانية، وولي العهد صامت خاشع، يدّعي الذهول عن شوارد الطعام، مشغولًا بقلب الحكومات.

منحت الإمارات الشيف براق الإقامة الذهبية، قد يكون ورقة في الانتخابات التركية، أو وسيلة للتجسس الناعم، أو دعوة للسياحة في هونغ كونغ العرب. الرئيس براق يطهو أطباقًا ملحمية، يعرضها على قنواته وصفحاته وهو يبتسم في وغى المعركة، وبين يديه جند من اللحوم المصفوفة والخضار البرية والبحرية وقماقم التوابل، ينبري لها مبارزًا بسكينه الساطورية، فيقطع البصل كما كان عنترة يفعل في المعارك، يسدد عيدان المعكرونة اليابسة، سهامًا في قوس الشهية، ثم يكسو رزمًا منها باللحم الكفتة، على هيئة الأسياخ الحديد، كأنه يؤدي فقرة في السيرك، أو كأنه بهلوان يمشي على الحبال، أمير الطهاة الجليل، لن تصمد له ثمرة يقطين قاسية، يحولها إلى قنبلة، يملؤها ببارود الرز واللحم، ثم يخرجها من التنور ويحرص على فتح مفتاح الأمان حتى لا تنفجر، باسمٌ دومًا مثل الطفل في العيد، وسيم قسيم. ثمة فرسان كثيرون غيره في حومات الطبخ والموائد، كالسيدة السعودية في لبنان والتي تطهو بطريقة المبارزين في الحلبات أيضًا، مع موسيقا البوليرو أو ما يعادلها، فتمتشق سكينها وتبدأ المبارزة والطعان، لكن ليس مثل الرئيس براق، ملك ملوك التنانير والأفران، طباخ الملوك، قائد الثور في عيد الأضحى بنفسه إلى التنور، ثور فيل، لولا أنه من غير خرطوم، يمشي إلى حتفه سعيدًا شهيدًا، وديعًا كالهرة، يمضيان كأنهما عروسان يمشيان، وصوت الزفة المطربة يعلو في دولة المائدة الموقرة.

قالت إنها لم تحضر معها من الشام سوى كتاب في الطبخ باللغة الإنكليزية، فيه قصائد كثيرة دونها شعراء المائدة، وتضحك ضحكة مفاجئة على خيانات الزمن

 يقول براق إن أصله سوري، أما الشاورما فتركية النشأة.

عاشت السيدة سابينا الأرملة بعضًا من عمرها في سوريا مع زوجها المهندس، وهجرها الأولاد إلى لندن والسويد وهامبورغ، فعاشت وحيدة من غير هرة أو كلب، والألمان يحبون الكلاب، قالت إنها لم تحضر معها من الشام سوى كتاب في الطبخ باللغة الإنكليزية، فيه قصائد كثيرة دونها شعراء المائدة، وتضحك ضحكة مفاجئة على خيانات الزمن، وأمراض العمر، وتقول إنها أغرمت بالمطبخ السوري.

أنظر يوميًا إلى أخبار السوريين، وبينهم علماء وسباحون عبروا البحار والقفار، وبلغوا الصين وايسلندا هربًا بأرواحهم، ففاحت روائح طعامهم الزكي في كوكب الأرض، أطعمتهم ليست حادة مثل أطعمة الهنود، ولا باردة مثل أطباق اليابان، وطهاتهم متواضعون، حكماء، ليس بينهم من له شهرة براق، وقد اشتهرت الشاورما السورية، حتى صارت هدية العشاق في مصر، ورفعت معدل العنصرية في تركيا في تأويلات سياسية.