دورة أغرار

2021.10.29 | 06:24 دمشق

template_10.png
+A
حجم الخط
-A

في حين سيبقى الجدل قائماً حول السؤال عن إمكانية انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 لولا أن سبقتها ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، يذهب كثيرون إلى أن العقد الرابع من عمر الدولة الأسدية قد حمل مجمل الإرهاصات التي كانت تشي بحدوث انفجار مجتمعي، كما أظهر ذلك العقد الزمني ( 2000 – 2010 ) عدم قدرة السلطة على إبقاء الستار مُسدَلاً فوق رواكم الفساد المزمن في أجهزة الدولة ومؤسساتها ومسؤوليها. ولئن كان من الصحيح أن المنهج الأسدي في الحكم لم يتغيّر من حيث الجوهر بين الأب ووريثه، إلّا أن الذي اختلف هو إدارة الفساد التي كانت تدُار بيدٍ أكثر خبرةً وحنكة في ممارسة البطش والتوحّش لدى الأب، بينما كانت يدُ الابن ربما تفوق يد الأب وحشيةً ولكنها أكثر غباءً وخطلاً، الأمر الذي حال دون السيطرة والتحكّم بسفينة مُثقَلة بشتى أنواع الموبقات.

تحاول رواية ( دورة أغرار- منشورات دار المتوسط 2020، 326 صفحة من القطع المتوسط) لمؤلفها الكاتب (نبيل محمد) تسليط الضوء على الأشهر القليلة التي سبقت انطلاقة الثورة في سوريا، وذلك من خلال رصد السلوك الاجتماعي داخل أنساق رجالات السلطة وخارجها، ومن ثم الوقوف عند المآلات التي انتهت إليها الأمور غداة انتفاضة آذار 2011 .

تنهض الرواية – من حيث الرؤية -  على مجموعة من الأفكار، لعلّ أبرزها وأكثرها مفصليةً هي ثلاث:

أولاً – التحوّلات الاقتصادية في سوريا في فترة حكم بشار الأسد، والتي كانت تجري تحت شعار- الانفتاح الاقتصادي – الذي جعل منه الوريث الحاكم شعاراً افتتاحياً لبدء مرحلة حكمه، زاعماً – آنذاك – أن تحرير الاقتصاد وإصلاحه وتنميته أولى – من حيث التراتبية – من الانفتاح أو الإصلاح السياسي، فكانت ترجمة ذلك بفتح أبواب الاستثمار لرجال الأعمال موازاةً مع تشريع عدد من الإجراءات القانونية اللازمة لهذا الغرض، ثم تلتها خطوة أكثر خطورة تجسّدت ببيع مؤسسات ومنشآت صناعية وخدمية عديدة من القطاع العام للدولة إلى القطاع الخاص، وذلك ضمن ما أُطلِقَ عليه بعملية (الخصخصة). وفيما كان يتوهّم كثيرون وهم ينتظرون حصاداً وفيراً من هذا المنحى الاقتصادي الجديد في البلاد، كانت النتائج تظهر تباعاً من خلال بروز طبقة جديدة من رجال الأعمال والمستثمرين الذين لم يكونوا بمجملهم بعيدين عن هرم السلطة، بل تبيّن فيما بعد أن معظمهم كان شريكاً للسلطة ولكن بثوب آخر، إذ تظهر الحقيقة الناصعة التي تؤكّد أن شراكة (رأس المال والسلطة) هي المُنتَج الفعلي للانفتاح الاقتصادي الذي تغنى به رأس النظام، كما تبيّن أن ما سُمّي بالخصخصة هو عبارة عن عملية احتيال لنقل اقتصاد الدولة إلى ملكية فردية بين الحاكم وشركاه. فشخصية (سامر) كما تبدو في الرواية، تجسّد حضور رجل متنفّذ في السلطة وقريب من مواقع القرار، ويملك مجموعة من العقارات والمنشآت السياحية، هو نفسه من حظي بملكية قناة تلفزيونية خاصة، إلّا أن هذه القناة الخاصة لا تختلف من حيث نظامها الإداري وانتشار الفساد فيها عما هو الحال عليه في القنوات الرسمية، فضلاً عن كونه المدير المستبد المتفرّد في قراراته، أضف إلى ذلك أن شخصية (سامر) لا تنتمي إلى قطاع عسكر أو سياسي، بل تنبثق من قطاع مدني بعيد عن الأضواء والشهرة، ثم ما لبثت هذه الشخصية أن بدأ صيتها يتنامى ويزداد شهرة من خلال نفوذها الاقتصادي في المجتمع، مما يتيح للقارئ أن يجد فيها معادلاً فنياً لشخصية (رامي مخلوف) أحد المتنفذين في الاقتصاد السوري، قبل أن تطوله الحملة من ابن عمته بشار الأسد.

ثانياً – ربما يجد القارئ في الرواية أيضاً تجسيداً لفحوى الانفتاح الشكلي الذي كانت تحاول السلطة تكريسه أمام الإعلام، وهو انفتاح خادع، أو خاوٍ من حيث القيمة، فسماح النظام بفتح قنوات إعلامية خاصة قد يوحي للبعض بحدوث هامش جديد في البلاد لكسر احتكار الإعلام من جانب السلطة، إلّا أن المُنتَج الذي تقدمه القنوات الخاصة المستحدثة – كما يظهر في الرواية – لا يوحي بأنه منبثق من حراك أو نشاط مجتمعي ، أو أنه يجسد تصورات أخرى، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، مغايرة لما تقدمه القنوات الرسمية للسلطة، يبقى المجال الوحيد المتاح للتميّز والتفرّد بالنسبة إلى القنوات الخاصة هو تركيزها على البرامج الفنية التي تشبه كثيراً حفلات السمر في الملاهي الليلة، مُستلهمةً بذلك القنوات اللبنانية التي تحظى برامجها الفنية بجمهور واسع، فشخصية ( شوشو – واسمها الحقيقي شهيرة) تكاد تختزل المعايير المهنية المطلوبة للعمل في هكذا قطاع إعلامي، فهي ابنة ضابط كبير في الجيش برتبة لواء (علي لواء) جميلة الشكل، تعمل كمحررة صحفية في جريدة يومية، يدفعها طموحها لأن ترتقي إلى عالم النجوم، ويسعفها في ذلك النفوذ السلطوي لوالدها، وكذلك استعدادها لتوظيف جسدها مع من بيده القرار لتحقيق هدفها، ولن يكون غباؤها عثرة في طريقها، طالما أن المضمون الذي تحاول تقديمه في عملها الإعلامي الجديد، لا يستدعي مزيدا من الذكاء والتفكير. مجّانية الانفتاح الإعلامي المزعوم تحاول الرواية تجسيده – أيضاً – من خلال ازدياد قوانين الرقابة في تلك القنوات المستحدثة، بل ربما تتضاعف عما هي عليه لدى قنوات السلطة، باعتبار أن مالكي تلك القنوات هم شركاء للسلطة الفعلية.

رواية (دورة أغرار) ربما تكون قد نجحت إلى حدّ بعيد في رسم ملامح الفساد السلطوي في أوج أطواره، أي في المرحلة القريبة من انطلاقة الثورة

ثالثاً – ما هي المعايير الناظمة لعلاقة نظام الحكم بحاشيته وأزلامه المقرّبين؟ هل هي معايير قيمية ذات مرجعية مبدئية؟ أم تستند إلى روابط الدم والقرابة أو الطائفة، أم هي محكومة بالمصالح المتبادلة بين الطرفين، أو بمصلحة الطرف الأقوى (السلطة) فقط؟ لعل المآلات التي انتهت إليها عائلة أبو (علي لواء – أبو حسام) تترجم بوضوح جانباً مهمّاً من تلك العلاقة، أبو حسام ضابط في الجيش برتبة لواء، واستطاع خلال خدمته العسكرية أن يحوز على امتيازات مادية واجتماعية رفيعة، شأنه شأن مجمل الضباط ممّن هم من الدائرة الأولى حول نظام الحكم، ولعله من الطبيعي أن تنتقل تلك الامتيازات ذاتها إلى أسرته وحاشيته، ولكن استمرار بقاء تلك الامتيازات جميعها يبقى مرهوناً بامتثاله المطلق وطاعته الكامله لوليّ أمره، ومتى حدث أيّ منعرج في هذا الولاء أو الامتثال، فسوف تنعرج كل تلك الامتيازات أو تزول، وهكذا ، وبسبب رفض (شوشو) خطبتها لابن اللواء (علي مغوار) يتوقف ترفيع والدها عسكرياً، بل يُحال إلى التقاعد، ويتحول إلى متسكع في المقاهي يبحث عن أقرانه من الضباط المعطوبين ليُمضي معهم في تزجية الوقت، كما تفقد شوشو ذاتها جميع امتيازاتها النجومية في القناة، وتتحول إلى مذيعة عادية، عارية تماماً من الهالة التي كانت تحيط بها، أمّا الأم (سليمانة) فتنتهي إلى كرسي نقّال بعد حالة من الشلل أصابتها إثر حادث سير واجهته مع أبنائها. لعل انطفاء النعيم أو زواله هو نذير بزوال رضا الرئيس عن المرؤوس، أما ما قدّمه المرؤوس من خدمات وإخلاص سابق فلا يشكل رصيداً في العلاقة بين الطرفين، طالما أن الرابطة التي تربطهما هي مصلحة الحاكم بالدرجة الأولى، ولعل تاريخ نظام الأسد مع – الأب والابن معاً – يزخر بالأمثلة التي تذهب إلى ما بعد الإحالة للتقاعد أو التجميد الوظيفي، بل ربما امتدت إلى درجة التصفيات الجسدية.

رواية (دورة أغرار) ربما تكون قد نجحت إلى حدّ بعيد في رسم ملامح الفساد السلطوي في أوج أطواره، أي في المرحلة القريبة من انطلاقة الثورة، وقد حرص الكاتب على أن تكون مقاربته الروائية أقرب إلى الواقعية الاجتماعية، إلّا أن الاستغراق في التفاصيل الجزئية للشخصيات والأحداث ربما جعل النص يقترب بعض الأحيان من الواقعية التسجيلية، فضلاً عن أن لغة الرواية هي أقرب للغة الصحفية، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الحديث عن الجانب الفني أو أدبية الرواية يحتاج إلى كلام آخر.