دوافع وأسباب الحراك الإسرائيلي الفلسطيني العربي

2021.09.10 | 06:31 دمشق

thumbs_b_c_522042736f15e1743bb7651ca385af32.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أواسط 2014، عقب اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ساد الجمود شبه الكامل العلاقات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية التي قادها بنيامين نتنياهو بين 2009-2021، واقتصرت اتصالاتهما على التعاون الأمني والعلاقات الاقتصادية، وبقي الملف السياسي مجمدا دون حراك يذكر.

حتى حين أطلق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خطته السياسية المسماة "صفقة القرن"، لم ينجح بإحداث الحراك المطلوب سياسيا بين رام الله وتل أبيب، بل إن الأمور زادت تعقيدا، وزاد الطين بلة بوصول الجمود إلى العلاقات الفلسطينية الأميركية، ولم تقتصر على إسرائيل فقط.

بصورة لافتة، وبعد أن تولت الحكومة الإسرائيلية الجديدة مهامها، ورغم يمينيتها الصرفة، وتشكيلتها غير المنسجمة، لكنها بدأت حراكا سياسيا مكثفا، وتحديدا باتجاه الفلسطينيين الذين عاشوا جمودا سياسيا امتد لأكثر من سبع سنوات.

أخذ الحراك الإسرائيلي أشكالا عدة، أهمها اللقاء الذي عقده وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو أول لقاء على هذا المستوى يجمع عباس بمسؤولين إسرائيليين، مع العلم أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت لم يبد ذلك الحماس لانعقاد اللقاء، سواء لعدم إيمانه بجدوى عملية سياسية مع الفلسطينيين من جهة، بسبب مواقفه اليمينية الأيديولوجية، ومن جهة أخرى لاعتبارات حزبية داخل الائتلاف الحكومي، وخشيته أن يصعد نجم غانتس في الساحة السياسية على حسابه.

بجانب لقاء عباس غانتس، فقد أجرى الرئيس الإسرائيلي الجديد يتسحاق هرتسوغ اتصالا هاتفيا مع عباس، وحثه على استئناف العملية السياسية، مع العلم أن هرتسوغ تعود جذوره إلى حزب العمل، الذي ترأسه سابقا إسحق رابين وشمعون بيريز، وهما من قادا مفاوضات التسوية واتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية زمن ياسر عرفات.

فضلا عما تقدم، فقد تواصلت الاتصالات الأمنية بين ضباط الجانبين، وهي الاتصالات التي لم تتوقف حتى في ذروة الجمود السياسي، وللمفارقة كأن الدور الفلسطيني المطلوب هو توفير الأمن للإسرائيليين وحمايته، رغم أن هذا هو التوصيف الحقيقي لهذه السلطة منذ إنشائها قبل أكثر من ربع قرن من الزمن.

لا يبدو أن هذه الاتصالات، على كثافتها، قد تسفر عن نتيجة سياسية، على الأقل في المدى القصير، كما تسعى الإدارة الأميركية التي سعت لترتيب هذه اللقاءات، في ضوء جملة من العوامل والأسباب الذاتية والموضوعية، وتخص الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي.

على الصعيد الفلسطيني، تعاني السلطة الفلسطينية من فقدان كبير لمشروعيتها السياسية: داخليا وخارجيا، لا سيما مع تدهور شعبيتها بين الأوساط الفلسطينية، في ضوء سلوكيات أجهزتها الأمنية، خاصة اغتيال وملاحقة معارضيها السياسيين، بجانب حالة الاستقطابات والتجاذبات التي تعيشها السلطة، وبروز تيارات تنظيمية وجهوية عديدة داخلها، وظهور معسكرات تمثل قادة حركة فتح، بسبب غياب الإجماع حول قيادة عباس للحركة.

أكثر من ذلك، فإن المطالب السياسية التي ترفعها السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، ولو في حدها الأدنى، لا تتطابق مع البرنامج السياسي الذي تتبناه الحكومة الإسرائيلية، ولم يعد لدى السلطة أي تنازلات تقدمها للإسرائيليين، وأي خطوة في هذا الاتجاه يعني تخليها عما تبقى لها من مشروعية سياسية وشعبية فلسطينية.

في الوقت ذاته، فإن حالة الانقسام الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، وسيطرة حماس على قطاع غزة، يعني أن السلطة الفلسطينية تفتقر لحالة التمثيل السياسي للفلسطينيين، وهو ما تذرعت به الحكومة الإسرائيلية السابقة وإدارة ترامب، حين لم تفضل الدخول في مسار سياسي مع عباس، لأنه لا يمثل جميع الفلسطينيين، وهي بالمناسبة فرضية تحمل كثيرا من الوجاهة، حتى لو استخدمتها إسرائيل والولايات المتحدة للتنصل من الدخول في عملية سياسية، أي إنها كلمة حق يراد بها باطل.

إسرائيلياً، ليس هناك من طموحات تفيد بنجاح أي عملية سياسية مع الفلسطينيين، في ضوء التغذية الراجعة منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد أواخر العام 2000، بين إيهود باراك وياسر عرفات، مما قد يعني أن هذه اللقاءات التي شهدتها الأسابيع الأخيرة لا تتجاوز حملة من "العلاقات العامة"، وحالة من "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين، وليس "حله" بالضرورة.

من الصعوبة بمكان عند قراءة هذا الحراك السياسي الإسرائيلي الفلسطيني أن نغفل الدور الأميركي الذي يدفع بقوة نحو استئناف المسيرة السياسية بينهما، صحيح أن إدارة الرئيس جو بايدن تفتقر لمشروع سياسي متكامل لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في ضوء رغبتها الأساسية بمغادرة المنطقة، وعدم الانخراط بمشاكلها، والتفرغ لحل نزاعاتها مع روسيا والصين، لكنها في الوقت ذاته تحاول أن تشكل بديلا، ولو استعراضيا، عن إدارة ترامب السابقة التي ساهمت بتأزيم الصراع، بدلا من حله.

فضلا عن اللقاءات الفلسطينية الإسرائيلية، نشطت الآلة الدبلوماسية في تل أبيب بصورة لافتة نحو الإقليم العربي المجاور، فقد سعت إسرائيل مباشرة لترميم العلاقة مع جارتها الشرقية، الأردن، بعد توترها خلال عهد نتنياهو، والقطيعة التي سادت علاقته مع الملك عبد الله الثاني، لأسباب كثيرة قد لا يتسع المجال لذكرها في هذه السطور.

بدأت الاتصالات الأردنية الإسرائيلية باتصال بين عبد الله وهرتسوغ، الذي افتتح استئناف العلاقة بين عمان وتل أبيب، وصولا الى زيارة خاطفة قام بها غانتس إلى قصر الملك، وانتهاء باجتماع سري بين بينيت وعبد الله في العاصمة الأردنية، وأسفرت جميعها عن تجديد العلاقات، وتوقيع اتفاقيات تجارية، وتأكيد إسرائيلي، تحتاجه عمان، على الدور التاريخي للأردن في الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة.

بجانب الأردن، زاد "دفء" العلاقات الإسرائيلية المصرية، سواء بالزيارات المكوكية التي يجريها ضباط المخابرات الإسرائيلية إلى القاهرة، ولقاء نظرائهم هناك، لترتيب ملف غزة، والتوصل إلى تهدئة مع حماس، وإبرام صفقة تبادل أسرى معها، وصولا إلى عقد قمة رئاسية ستجري في الأيام القادمة بين نفتالي بينيت والرئيس عبد الفتاح السيسي، في القاهرة، وعلانية، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة جدا.

 بالتزامن مع ذلك، شهدت العاصمة المصرية لقاء قمة جمع السيسي وعبد الله الثاني وعباس، وبحثت تنسيق المواقف بينهم في القضية الفلسطينية، تحسباً لإطلاق مسيرة سياسية تبادر إليها الإدارة الأميركية، رغم عدم نضوج المنطقة عموما لإطلاق مثل هذه العملية، لكن هذه الاتصالات الإسرائيلية العربية الفلسطينية دفعت كثيرا من الأوساط في مختلف العواصم لرفض فكرة أن يكون ما يحصل عبارة عن اتصالات ولقاءات عادية تكتيكية بروتوكولية، بزعم أن هذه الأطراف مجتمعة قد يكون لها رغبة بوجود عملية سياسية ما، رغم تباعد مواقف الأطراف المختلفة عن بعضها.

أياً كانت الأسباب التي تقف خلف هذه الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية العربية، وسواء كانت من أجل إرضاء الراعي الأميركي حصراً، أم أن هناك تحضيرات لإطلاق مبادرة سياسية ما، لم تتضح معالمها بعد، لكن يمكن القول بكثير من الثقة أن الأجواء السائدة لدى جميع الأطراف لا تؤهلهم لخوض مثل هذه العملية، سواء السلطة الفلسطينية أو إسرائيل أو الدول العربية، وكلٌ لأسبابه الخاصة، بما فيها الإدارة الأميركية ذاتها، المنشغلة حاليا بتبعات الانسحاب "المهين" من أفغانستان.

هذا لا يعني أننا قد لا نشهد "سخونة" إضافية في علاقات تلك الأطراف بعضها ببعض، ربما لمواجهة عدو مشترك في المنطقة، أو تحضيرات لتسكين الملف الفلسطيني الإسرائيلي، تحضيرا لاشتعال ملف آخر، ورغبة هذه الأطراف بتحييد كل ما من شأنه تشتيت الجهود، وإثارة الخلافات بينها، من أجل هدف أهم وأخطر، ربما تكشف عنه الأيام والأسابيع القادمة.