دمشق الياسمين ودمشق المخابرات

2022.05.14 | 06:57 دمشق

nzam_alasd.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لدمشق أسماء كثيرة، منها درة الشرق، وشامة الدنيا، ومدينة الياسمين، نظراً لجمالها وطبيعتها الخلابة وانتشار أشجار الياسمين في أحيائها، التي كانت ترمز إلى صورة البيت العربي الذي تتوسطه البحرة وتزينه، وإلى مجتمعها الأهلي المتسامح. إضافة إلى جامعها الذي يعود لعهدها الذهبي حين كانت عاصمة للدولة الأموية، وإلى أسواقها القديمة التي انطلقت منها الصرخة الأولى في ربيع 2011: "الشعب السوري ما بينذل"، لتنتشر فيما بعد في كل المدن السورية تباعًا تنادي برحيل الدكتاتور.

لم تعد دمشق مؤخرًا مدينة للياسمين، ولا بما تختزنه الذكريات عن أنها عاصمة للأمويين، بل غدت خلال مسيرة الحكم الأسدي مدينة المخابرات وفضاءً لنشاط اللطميات الإيرانية التي غدت مشهدًا طبيعيًا في شوارع المدينة وضواحيها.  كما أن تسمية "سيدة الجحيم"، بـ "سيدة الياسمين"، تلخص سيرة احتلال سلطات الطغيان وأسرها للمدن أولًا، وللبلاد برمتها طوال خمسين عامًا من العلاقة المركبة العنيفة في إخضاع المدن بمجتمعاتها وحتى طبيعتها وعمرانها لسلطة عسكرية تختزن من العداء للمدن وحتى للتحضر ما يكفي لتدميرها تباعًا وإعادة تشكيلها كفضاء يديم سيطرتها إلى الأبد.

لا بأس من أن تغطي أشجار الياسمين أسوار الفروع العالية التي تدفن في أقبيتها أصوات وأرواح دمشقيين وغيرهم من السوريين

تجلّت عملية الإخضاع تلك مع استيلاء سلطة آخر انقلاب عام 1970، التي وضعت نصب عينيها إغراق المدن بجحافل "الغزاة" الجدد من ضباط مخابرات وجيش ومخبرين وحتى موظفين، بقصد تمزيق نسيجها بعد تدمير علاقاتها الاجتماعية، لدرجة حولت المدينة التي كانت تُعرف بياسمينها إلى مدينة الفروع المخابراتية، التي يتجاوز عددها العشرات (هناك شارع بالقرب من الجمارك ينتشر على يمينه ويساره فروع المخابرات) فضلًا عن مراكز التعذيب الإضافية التي أُنشئت وقت الثورة والتي تنتشر في أكثر من حيّ سكني بغاية تعميم التعذيب، وتحويل العنصر المخبر إلى جزء من نسيج هذه المدينة، ولا بأس من أن تغطي أشجار الياسمين أسوار الفروع العالية التي تدفن في أقبيتها أصوات وأرواح دمشقيين وغيرهم من السوريين الذين لم ينخرطوا في تلك الثنائية المرعبة التي أنشأها نظام الأسد: المواطن الشريف -المخبر بوجه المواطن العادي.

وثاني تجليات اجتياح دمشق "الياسمين"، تدمير البنية العمرانية من خلال بناء الأحياء السكنية الراقية لكبار الضباط من قادة الفرق ورؤساء الأفرع والإدارات المخابراتية، فضلًا عن مزارعهم الفارهة المحيطة بالمدينة، ومن ناحية أخرى انتشار أحياء المخالفات لصغار العناصر الأمنية والعسكرية على أطراف المدينة لتشويه المدينة، وعدد هؤلاء ليس بقليل، إذ يصل في بعض التقديرات إلى (500) ألف عنصر.

كما أن جبل قاسيون المطل على دمشق، صار مغطى بكتائب القتل والتدمير، خاصة بعد آخر حرب مع إسرائيل عام 1973، حيث غدت مهمة الجيش مواجهة الداخل، هذه الكتائب الذي ثبت تمامًا أن سلاحها موجه نحو المدينة، الذي دكّ أحياء دمشق وبلداتها، وحتى انطلقت منه الأسلحة الكيماوية التي قتلت نحو 1300 شخص في الغوطة في آب 2013. حتى المشافي لم تبق كما هي لمعالجة المرضى، بل تحولت إلى مراكز تعذيب وقتل، إلى مسالخ بشرية، حيث كثير من المشافي العسكرية وغيرها شواهد على تعذيب وقتل الثوار.

أما تجارة المخدّرات، فقد غدت بفضل جهود الفرقة الرابعة وميليشيات إيران، وخاصة حزب الله، مصدرًا أساسيًا في تمويل النظام، حيث صارت سوريا الأسد معروفة بأنها مركز تصنيع وتهريب الكبتاغون، وهناك تقارير تشير إلى أن ما يحققه النظام من تجارة حبوب الكبتاغون يفوق بخمسة أضعاف جميع إيراداته الأخرى، حيث تجاوزت قيمتها خمس مليارات دولار خلال عام 2021، حتى صارت سوريا الأسد تصنف بأنها "دولة المخدرات"، إضافة إلى كونها دولة المخابرات.

والأمر الآخر هو تحول العلاقات مع إيران من شريك إلى سيّد، له كل الحق في التحرك في أراضي سوريا، ما دام هذا التحرك يدعم ديمومة النظام الأسدي. وأكثر ما تجلى هذا الدور الإيراني، عدا الوجود العسكري المباشر أو من خلال الميليشيات الطائفية التي أسستها مع انطلاقة الثورة السورية، في سعيها المستمر لنشر المذهب الشيعي بين السوريين مستغلين حالة الفقر الشديد بينهم، من خلال تأسيس مزيد من الحسينيات وتحويل طقوس اللطم الشيعية كفعل عادي في البلاد، وبات من المألوف اليوم رؤية هذه المناظر البشعة في شوارع دمشق وضواحيها.

إن وعي كثير من مثقفينا وكتّابنا لا يزال وعيًا رومانسيًا، أو وعيًا مفارقًا، لا يرى من دمشق سوى جامعها الأموي الكبير، وياسمينها وأسواقها القديمة، ومقاهي مثقفيها، وحاناتها، لا شك أنها أشياء جميلة وتستحق الاهتمام، بينما يتجاهلون دمشق الحقيقية في عهد الأسدين، دمشق المخابرات والجيش، ودمشق اللطميات الشيعية، دمشق الياسمين المخضب بدم السوريين، التي لن يزهر ياسمينها إلا بزوال طغمة المخابرات.

إن خرجنا ذات يوم من السجن، سأذهب إلى دمشق وأبحث عن حنّا مينا، وحين أجده سأقول له هذه الكلمات: هل تعرف (أبو العمرين) يا سيدي!"

في أواسط الثمانينيات كتب حنّا مينا، الروائي السوري المعروف، زاوية في جريدة تشرين الحكومية، بعنوان: "هل تعرف دمشق يا سيدي!"، يحكي فيها عن دمشق وذكرياته فيها منذ أن قدم إليها في أواسط القرن الماضي، بوصفها "المدينة الفريدة بين المدن، التي منها كانت حبيبة سليمان، ومنها الطريق المستقيم، والسور الذي قفز منه بولص، وبوابة خالد بن الوليد الشرقية. دمشق، هذه اللؤلؤة في تاج الزمن القديم قدم الأرض، ذات البهاء الذي لا يوصف، والأهمية التاريخية النادرة".

في تلك الأيام، كنت مع عدد من المعتقلين في السجن، وفي جناح مجاور لنا تابع للأمن العسكري، كان ثمة سجّان لا يشبه سوى الوحوش البشرية، يدعى أبو العمرين. وكان مولعًا بتعذيب المعتقلين حتى الموت، حيث يقوم بحفلات تعذيب مرعبة، كنا نسمع أصوات وآنات المعتقلين تتلاشى مع اشتداد ضربات (أبو العمرين)، يومها قال أحد المعتقلين معنا: "لديّ أمنية واحدة، إن خرجنا ذات يوم من السجن، سأذهب إلى دمشق وأبحث عن حنّا مينا، وحين أجده سأقول له هذه الكلمات: هل تعرف (أبو العمرين) يا سيدي!".