دعوة إلـى الجنون

2018.08.18 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في روايته " العمى" يقول "جوزيه سارا ماجو " على لسان إحدى الشخصيات: "ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى" وذلك لأنه يكون قادراً على رؤية فظاعة المآسي الواقعية، التي يخلّفها الطغيان، وتتجاوز الخيال.

إنّ ما يحدث في سوريا..ما يحدث في القدس.. ما يحدث في الوطن العربي (المرحوم قبل ولادته)..ما يحدث في العالم الذي يؤول إلى الخراب..ما يحدث الآن في أي مكان، لم يعد يحتمل السياسة التي تعتمد العقل والعقلانية، ولم يعد يحتمل التروّي لإجراء الموازنات وحساب الخطى. ما يجري الآن خروج على أي منطق، ولا يمكن مواجهته إلا بمنطق اللامنطق نفسه حتى يُرَدّ، وإلاّ بقينا نراوح في أمكنتنا نتحسّر على بقايا أمجاد حملها أجدادنا على أكتافهم، ثم أهملها أبناؤهم ببرود يشبه استهتار طيّار أسدي وهو يرمي البراميل القاتلة فوق رؤوس المدنيين.. ويشبه برود جندي صهيوني وهو يقتل طفلاً في حضن أمّه.

عانى السوريون كثيراً من أجل حريتهم وكرامتهم، وقتل الطاغية الأرعن الملايين، وعبّأ السجون بالملايين، ودمّر سوريا / قبلة الثقافة والفكر/، وباع الجولان.. والعرب يتفرّجون.. يعدّون الاجتماعات والمؤتمرات.. يدينون ويشجبون ويتوعّدون.

انتفض الشعب بوجه القاتل، وبفضل شجاعة أبنائه، التي حطّمت موائد المفاوضات، حرّر كثيراً من المناطق، وأعطانا دروساً في كيفية استعادة الحقوق. لكنّ العالم خذله. وما تزال الحكومات العربية تفاوض وتصافح وتصالح وتتلقّى الطعنات تلو الطعنات، وما تزال الشعوب العربية مغيَّبة لا رأي لها ولا حول.

الآن نفكر بعقد قمة عربية تشجب وتدين، وما تزال الاتصالات جارية لتشكر أمريكا لأنها امتنعت عن التصويت في مشروع إدانة الذي يقتل الأبرياء، بعد أن تعوّدنا أن يحمل الأمريكان لافتة (الفيتو) ليعترضوا على كل قرار إدانة تصدر من هيئة الأمم المتحدة ضد الكيان الصهيوني.

عانى السوريون كثيراً من أجل حريتهم وكرامتهم، وقتل الطاغية الأرعن الملايين

وما تزال أمريكا تعدّ نفسها المُدافع الأوحد عن حقوق الأمم وعن تنظيم العلاقات بين الدول على أساس من الشرعية الدولية، التي هي شرعيتها وحدها وحسب.

أين أمريكا في القرارات الشرعية الدولية التي تدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة ؟

أين أمريكا في الانتهاكات التي تجري ضد العرب داخل حدودهم وخارجها؟.

أين أمريكا في القتل الممنهج والتغيير الديمغرافي الذي يحدث في سوريا؟

هل نصدّق أن أمريكا تغيّرت ؟

أمريكا هي أمريكا، تلك التي تجرّأت في أواخر الحرب العالمية الثانية وألقت بقنابلها الذرية على كلّ من هيروشيما وناغازاكي في اليابان، كي تتخلّص من عدوّها الصامد، فاحتجّ العالم برهة بعد أن استسلمت اليابان من دون قيد أو شرط، ثم نُسي الأمر. ونُسيت دماء مليون ضحية ومليون جريح، ونُسي الدمار الذي أحدثته أمريكا المتحضّرة التي سرعان ما أعلنت نفسها شرطياً على الدول، بل لقد استطاعت أن تزرع في العالم فكرة أنها المخلّص الجديد للكون من كل الشرور، وبخاصة من المسلمين والعرب الذين يتميّزون بالإرهاب (!).

من هو الإرهابي ومن هو الضحية؟ هل هو الذي يحمل الحجارة ويدافع عن نفسه وعن حقوقه ومقدساته وآرائه بفتات السلاح الذي ترميه الدول التي استعمرته وجزّأته ونهبت ثرواته، أم هو المحتل الغاصب الذي يتسلّح بالنابالم والأسلحة الالكترونية الذرية والنووية ؟!

هل نريد – نحن العرب – الحفاظ على بقايا سمعتنا التي تتمسّك بالسلم وبالسلام؟ وهل نجهد طويلاً من أجل أن يُشطب اسمنا من لائحة الإرهاب؟

أمريكا هي أمريكا، تلك التي تجرّأت في أواخر الحرب العالمية الثانية وألقت بقنابلها الذرية على كلّ من هيروشيما وناغازاكي في اليابان

وهل نثق بأن الهيئات الدولية تستطيع الخروج على تعليمات أمريكا التي تمتثل لما يريده الصهاينة ؟

هل يُرجى لنا خير من الجلوس إلى موائد المفاوضات لنقنع الصهاينة بأن يكتفوا باغتصاب بعض أراضينا؟ هل يُرجى خير من الاجتماعات والمؤتمرات والمباحثات لإصدار القرارات التي تشجب وتستنكر وتدين؟

هل يُرجى لنا خير من أمريكا التي جرّبناها كثيراً، وما زلنا نأمل بعدم استخدامها حق الفيتو (الذي فرضه الأقوياء) ضد القرارات التي تأمر الصهاينة بالانسحاب وبوقف الإرهاب والقتل والتدمير؟

أفسحت أمريكا المجال لروسيا كي تتسلم الملف السوري، وهنا بدأ (الفيتو الروسي) يقوم بفعله المدمّر ليحمي القاتل من الإدانة.

أيها العرب النجباء .. يامن صبرتم كأيوب وعُذّبتم كسيزيف وعطشتم كصحراء سيبيريا: ألم تتعبوا من الكلام ؟

ألم يَحِن وقت استخدام حق الفيتو على العقل ليتوقّف برهة عن المسالمة والاستسلام؟

ألم يَئِن الأوان كي نشجب التكنولوجيا قليلاً، ونتخلّى عن الكلامولوجيا  الإذعانية المراوِغة، لنمارس حقّنا في الدفاع عن أنفسنا ونعلن على أعدائنا (الحربلوجيا) كي نثبت لهم أننا آدميون ولنا حق العيش أحراراً كراماً آمنين في ديارنا ؟

وإذا كان العقل والعقلانية لم يعودا مجديين، ألا يحقّ لنا أن نمارس الجنون ؟