دروس في التسلط

2021.03.04 | 23:57 دمشق

image.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل يقرأ الدكتاتور؟ نعم، يقرأ.

ما الذي يقرؤه عدا التقارير الأمنية التي تصله من الأجهزة الأمنية؟ لا يمكن تيقن ما يقرؤه فعلا، فهو يكره القراءة أسوة بغيره من الدكتاتوريين، لكنه يضطر. حافظ الأسد كان يقرأ كتب التاريخ، وكانت هادفة، يطلع على السلالات الحاكمة في التاريخ العربي، كيف نشأت، ويبدو أنه لم يرغب في معرفة كيف انتهت.

بالنسبة إلى الوريث الحالي، فأغلب الظن أن الظروف لم تسمح له بالقراءة، السنوات العشر الأولى قضاها في تأجيل ما يجب القيام به من إصلاحات وعد بها، والسنوات العشر التالية أمضاها في القضاء على الثورة، وخوض حرب عبثية. لكن اتسع له الوقت لقراءة كتاب مساعد على الحكم، ترشحه الدكتاتوريات قاطبة، إمارة كانت، أو دولة جمهورية أو ملكية، أو إمبراطورية. إنه بمثابة ألف باء السلطة، ما يحفظ للحكم هيبته، وللبطانة مكانتها، وللخصوم الموت.

 إنه كتاب "الأمير"، للإيطالي نيقولو ماكيافيللي، قرأه هتلر وفرانكو وموسوليني وسالازار وستالين، هذا في العصر الحديث، وقبلهم قرأه كل من شيد عرشه فوق الجماجم. قد نستهين بهذا الكتاب الذي كتب في العام 1513، لكنه لم يصبح قديما بعد، ما زال محافظا على مكانته مرجعا معتمدا لدى الباحثين في السياسة، مع أنه كتب لإرشاد الطغاة، ومن لديه نوازع تسلطية. لن يطويه التاريخ، إلا في حال أصبحت الدكتاتورية في ذمة الماضي، وهو أمر محل جدل، فالطغيان لا يصيبه التقادم، وتبدو استمراريته من عصر لعصر بأنها ستتأبد وتكتسب الخلود. وللدلالة على أهمية الكتاب، ما من مفكر قبل كارل ماركس كان ذا تأثير ثوري على الفكر السياسي مثله، ويحق لمكيافيلي حسب كثير من الدارسين أن يلقب "مؤسس علم السياسة".

كان الكتاب على مرّ السنين المرشد للطغاة والمستبدين من مختلف البلدان، فالنزوع البشري إلى السلطة لم يتغير، ولو تغير الزمان، إنه مُعبد بالجثث والدماء والنوايا السيئة. يسدي الكتاب النصائح للطاغية، وتتلخص بكيف يسوس شعبه؟ ويقضي على أعدائه والمشتبه بهم؟ ويوفر له أفضل السبل للحفاظ على الحكم. وبشكل مختصر، يشكل الكتاب خريطة طريق إلى سلطة مطلقة، لا ينازعه عليها، أو يعارضه أحد.

صوّر مكيافيلي الدين بأنه "أداة ملكية"، أي وسيلة يمكن بها السيطرة على الشعب وتوحيده باسم العقيدة الواحدة. فالدين في نظره، دين للدولة

فمثلًا، من جملة نصائحه، يجب على الأمير الظهور بمظهر الحليم والمتدين والنزيه والأخلاقي. ولو كان في تسلطه وقسوته وجرائمه، ما لا يسمح له بامتلاك أي من هذه الفضائل، لكن عليه أن يدعيها، فالبطانة من حوله تروج لها. وفي عصرنا متوافرة، لتوافر الدعاية والقنوات الفضائية، والجرائد ونشرات الأخبار، وطاقم من المثقفين والمحللين السياسيين والأدباء والفنانين يسوقون لسداد بصيرته، ولو لم يكن لديه بصر ولا بصيرة. وأن يعمل على كسب الأصدقاء، والمقصود شراؤهم، لأن الدكتاتور لا يصادق أحدًا. ما يدلنا على أن الحكم ليس نزهة، بل فن عسير يجب إتقانه، بالجمع بين النقيضين، أو باختيار واحد منهما، حسب الدور الذي سيلعبه.

 وينصحه، بالحرص على أن يكون مخشي الجانب، وهو الأكثر أمناً من أن يكون محبوباً، ولكن ليس من المستحسن أن يكون مكروهاً، وأن يتجاهل الفضيلة والعدل في حال تهدد ملكه، وألا يغفر لأحد، ولو لمجرد الشك فيه، وأن يتغلب على خصومه بالقوة أو بالدهاء. وللحفاظ على السلطة  يجب اتباع وسيلتين، إحداهما استئصال دم سلسلة الأمراء السابقين، ومعهم كل من كان ذا قوة أو عقل، لئلا يشكلان تهديدا له. في عصرنا الحديث، ولا تغييرا كبيرا، بل يضاف إليها، استئصال من ينافسه حتى في داخل العائلة باغتياله أو تفجيره. 

صوّر مكيافيلي الدين بأنه "أداة ملكية"، أي وسيلة يمكن بها السيطرة على الشعب وتوحيده باسم العقيدة الواحدة. فالدين في نظره، دين للدولة، يُستغل لأغراض سياسية اعتبارية، وأداة يفرضها للحصول على طاعة الشعب، وهي عملية سياسية من أجل الوحدة. وكما نعرف، لا يغفل حاكم في زماننا عن استخدام الدين لمآربه السياسية، بل ويبالغ بالورع.

نصيحة أخرى، يستحسن أن يقوم بتوزيع الهدايا بنفسه، ويترجم في عصرنا بتوزيع المكرمات، ويترك لمعاونيه مسؤولية توقيع العقاب، بإسناد هذا الدور إلى السجون والمخابرات والمحاكم الأمنية، أي يترك لهم كل ما يثير الحنق وعدم الرضى. بينما يكثر من إبهاج شعبه بالحفلات والعروض والمسلسلات التلفزيونية. أكثر ما تتجلى المظاهر الاحتفالية، بإعادة انتخابه، أو بإلقاء خطاب قومي جامع، ويدع لهم الحرية بإطلاق الرصاص إذا نجح فريق كرة القدم بتسجيل هدف.

ويحذر مكيافيلي الطغاة بالابتعاد عن إحداث تغيير إلا إذا كان يعود عليه بالفائدة، وهو ما نجح به الطغاة الجدد بإقامة الستار الحديدي، ما حافظ على الدولة متينة في الداخل، وساعد على مد قرون استشعارها نحو الخارج، ونسج علاقات مؤثرة مع الجوار، وكما يحدث حاليًا، الالتحاق به، أو يغزوهم بالمتفجرات والمخدرات.

هذه النصائح، لم تلق العناية الكافية من هتلر وموسوليني، وكانت نهاياتهما التراجيدية، لإهمالهم أو إساءة تفسير المبادئ التي صاغها مكيافيلي  للبقاء في السلطة، لقد تورطوا بحروب كانت السبب في القضاء عليهم.

ما يستجرنا إلى نصيحة، سبقت زماننا الحاضر، وذلك بتحذير الدكتاتور من كراهية شعبه واحتقارهم له، التي تنجم عن نهبه لأموالهم، وتركها نهبًا للتعفيش، وتعذيب الناس وقتلهم في السجون، فيما لو أظهروا احتجاجًا.   

أما الآن، فالتحذير ينسحب علينا نحن القراء، وهو ألا نتخيل أن الطغاة يتعلمون الاستبداد من الكتب، حتى لو قرؤوها، فهم لا يتعلمون منها، الأصح أنهم يستزيدون معرفة منها، ويشحذون خططهم وشكوكهم، فإنها تساندهم.

المستبد، ليس بحاجة إلى كتب، أمّا لماذا يمنعها؟ فلأنه يعرف القوة الهائلة للكتاب.