دروس السياسة في سوريا قبل الثورة

2020.05.11 | 00:03 دمشق

bshar.jpg
+A
حجم الخط
-A

يشيع، في السنوات الأخيرة، القول إن الخبرة السياسية السورية كانت معدومة في عتبة قيام الثورة. بعد مسيرة من التصحر السياسي بدأت بوصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، ثم بانقضاض حافظ الأسد عليها في ما يسمى الحركة التصحيحية 1970، ثم ما أعقب صدامه مع الإسلاميين في الثمانيني ات من تعقيم الحياة العامة وملاحقة الفاعلين لزجهم في السجون أو دفعهم إلى الهجرة. وصولاً إلى تغول الأجهزة الأمنية التي قادت، فعلياً، الدولة والمجتمع.

في الحقيقة لا يمكن نقض هذه المرافعة كلياً، فهي ما جرى في الإطار العام، ولكن يمكن الحد من إطلاقها وتعميمها.

من الناحية الداخلية لا يمكن الزعم بوجود «حياة سياسية» تستحق هذا الوصف، رغم بقاء نبض ضعيف من أمارات العيش في أجسام بعض أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية»، شريكة البعث في حكم البلاد نظرياً، وعلامات مماثلة من النفَس في مجموعة أحزابٍ مجهرية معارضة شقيقة، اجتمع معظمها في «التجمّع الوطني الديمقراطي» المحظور، ورغم نشاط الأحزاب الكردية العديدة، المنظم ونصف العلني، في بيئتها القومية الخاصة.

ما تمكن مناقشته من علاقة السوريين بالسياسة وقتها يأتي من مسار آخر هو القضايا الخارجية، وتحديداً تلك المتعلقة بدول الجوار العربي. وكان اهتمام السوريين بها ملحوظاً و«مسموحاً» ضمن حدود توافقاتٍ جمعت بين التوجه الخارجي للسلطة ورأي رعيّتها في الغالب، أو في مساحة اختلاف لا تضر ما دامت في إطار الانشغال بمتابعة نشرات أخبار لا تنعكس على الداخل السوري. وإن ارتدّت عليه فربما حقنته بدروس مسمومة تفيد السلطة أكثر مما تضرّها.

ونقصد هنا، على وجه التحديد، الاهتمام بما كان يجري في فلسطين ولبنان والعراق، والآثار التي يمكن تلمّسها لطبيعة هذا الاهتمام في رسم مشحات من «وعي سياسي» وجد السوريون أنفسهم عليه عند اندلاع الثورة في 2011، وترك نتائج على سلوكهم اللاحق.

 

فلسطين «السليبة»

لأنها «دولة مواجهة»، وبحكم تجذر التيار القومي فيها؛ كانت سوريا من أشد الدول العربية انشغالاً بالقضية الفلسطينية، سياسياً وعسكرياً وشعبياً، منذ ما قبل «النكبة» وقيام دولة إسرائيل 1948، مروراً بكونها أحد أركان «النكسة» في 1967، وما تلا ذلك من تطورات كبيرة معروفة.

يمكن الزعم أن هذه المعايشة أورثت السوريين قناعات راسخة لعل أولها الإيمان باستحالة تحقيق «العدل» في هذا العالم بالاعتماد على مبادئ حقوق الإنسان وقرارات المنظمات العالمية الكبرى والمجتمع الدولي، وأن «ما أُخِذَ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، سواء أكانت حرباً منظمة أم أفعالاً إرهابية في نظر العالم، افتتحت بها منظمات المقاومة الفلسطينية أعمالها ولاقت حماساً كبيراً، قبل أن تترك حالة «الفصائلية» وفسادها الحقيقي أو المزعوم، شرخاً دائماً في صورة الفدائي وقابليته للارتهان والبيع والشراء. كما نتج عن التجربة الفلسطينية تأييد العمليات العسكرية حتى لو توجهت إلى أهداف مدنية، «فليس هناك إسرائيلي مدني» كما تصرّح مقولة رائجة. بما في ذلك مباركة السلاح الكيماوي السوري الذي جرى تسويقه في إطار «الردع الإستراتيجي».

 

«الحرب الأهلية اللبنانية»

طيلة ثلاثة عقود من التدخل السوري في لبنان تعاقب على الخدمة العسكرية الإلزامية هناك عشرات آلاف المجندين، فضلاً عن ألوف المتطوعين ومئات الضباط. ومن المعروف أن هؤلاء اعتادوا أعمال التشليح والنهب وجني الخوّات كلما استطاعوا، وتصرفوا كقوة قسر فظة على الحواجز حتى في المناطق التي تعدّ صديقة.

لكن هذه السلوكات لم تُصحب بوعي سياسي معلن من أي نوع، بما أن خريطة الحرب الأهلية اللبنانية معقدة ويستلزم فهمها قراءة الصحف. أما حين أتاحت تقوية محطات البث التلفزيوني، وظهور الفضائيات، فرصة الاطلاع على مجريات الحياة السياسية اللبنانية فكانت الحرب قد انتهت دون أن تمضي. ومن خلال متابعتهم لبرامج حوارية لا تتوقف عرف السوريون أن «الديمقراطية» مدوّخة، وأن تعدد الأحزاب يؤدي إلى «التشرذم»، وأن السياسيين فاسدون ومتلاعبون، وأن الاعتراف بالطوائف مدخل للحرب الداخلية التي تنزلق إلى «حروب الآخرين» عبر «أمراء حرب» محليين. ولم ينقذهم من تيههم اللبناني إلا ظهور حزب الله وصعود قائده الكاريزمي حسن نصر الله الذي حظي بشعبية سورية عارمة. فهو من يشبههم، وقتها، بكلام بسيط وواضح، وزهد شخصي مشوب بالترفع عن «أوحال السياسة»، وبندقية مشرعة باتجاه إسرائيل.

 

«الاحتلال» الأميركي للعراق

لا عجب أن العبارات الأكثر تواتراً في الكتابة على صور صدام حسين الآن مشتقة من التأسي على «غدر الزمان» ورقص «الكلاب» على أجساد «الأسود»

رغم الوقوع في غرام أبو هادي فإنَّ غصّة ظلت في عمق قلوب السوريين، فهو شيعي في نهاية الأمر، ومشوب بلبنانية لا تعني لهم سوى اللين. وعلى الضفة الأخرى من الحدود قبع من يليق بصورة المثال. أبو عدي بملامحه القاسية وشواربه الكثة السوداء. لا تأثير لمغامرات «أسد السنّة» الخرقاء لدى معظم السوريين، سواء بحربه على إيران أو بغزوه الكويت، ولا قيمة، تقريباً، للدماء الغزيرة التي سالت على يدي أجهزة حكمه الدكتاتوري. ما يهمهم، على نطاق واسع، هو «الرجولة» التي عُرف بها والشراسة التي أبداها أثناء محاكمته، بعدما سقط، كبطل تراجيدي، ضحية «خيانة» أبناء شعبه من الكرد في الشمال والشيعة في الجنوب، وتلفيق دولي يتهمه بتخزين أسلحة محرمة، وصولاً إلى إعدامه في ظروف مناسبة تماماً لترسيخ هذه الأسطورة. لا عجب أن العبارات الأكثر تواتراً في الكتابة على صور صدام حسين الآن مشتقة من التأسي على «غدر الزمان» ورقص «الكلاب» على أجساد «الأسود».

للمقاومة العراقية بعد سقوط الطاغية قصة أخرى. فقد حظيت بإقبال شعبي سوري كبير على التطوع، رعته جهات سياسية وأمنية. وعلى مستوى الوعي السياسي لم تفرّق بين بقايا حزب البعث وبين طلائع السلفية الجهادية، مما سينتج الطفرة القاتلة التي عُرفت بداعش.

 

«غزوة منهاتن»

في قوس أوسع كان هناك «أسد» آخر لا يقل شراسة. من أفغانستان البعيدة، والتي تقترب عندما يلزم الأمر، وضع أسامة بن لادن أساس خلفيةٍ ثابتة تقوم على العداء الجذري للغرب واستهداف مدنييه في 11 أيلول، مفتتحاً موجة جديدة من الأعمال الإرهابية المكللة بالبقلاوة.

إذاً، لم يكن وفاض السوريين خاوياً من «السياسة» فيما هم يكسرون القفل الكبير الذي سوّر بلدهم لعقود. لكنهم كانوا مفعمين بأكثر دروسها سمّية؛ كراهية العالم، وعدم الثقة بمعاييره ومنظماته، والإيمان العارم بالقوة التي لا يحدّها ضابط، والشك في أهلية القيم وحامليها. وهو ما نلمح آثاره بوضوح في كل ما حصل بعد ذلك. ومن أسوأ حصائل السنوات الماضية أنهم، على طرفي النزاع كما يقال، امتلكوا أدلة إضافية على أفكارهم!