لم تنل الثورة اليمنية حظها اللازم من الاهتمام والدراسة، وبقيت المعرفة بها في معظم الحالات محصورة في الصراع الدائر بين الحوثيين والقوى الأخرى، وما استتبعه هذا الصراع من تدخلات وتداخلات إقليمية، دمرت الشطر الأوسع من اليمن وجعلت أهله ممزقين بين المهاجر وويلات الحرب.
في المقدمة يشير الباحث اليمني "نبيل البكيري" إلى محورية الثورات وتاريخها لكونها توثق أهم لحظات ولادة الشعوب وتجديد هويتها، وهو لا يتوقف عند نقطة التأريخ وحسب، فقد قامت محركات البحث العملاقة "جوجل نموذجاً" بهذا الدور على وجهٍ كافٍ، لكنه يسلك المسلك الخلدوني في البحث عن بيئة وبنية الحدث "الثورة اليمينة" ليقدم مطالعة نقدية للثورة والثوار على حد سواء، مركزاً على الأسباب المولدة للثورة والمجهضة لها.
ربما كانت بعض المقاربات التي تناولت الحدث اليمني الأهم في القرن الحادي والعشرين، مشوشة بفعل تناول بعض الايديولوجيين لذلك الحدث من منظورهم، وإسقاط نظرياتهم وتصنيفاتهم على الحدث اليمني "ثورة 11 فبراير" المختلف كلياً، الأمر الذي يجعل من الضرورة بمكان الاهتمام بمراجعة نقدية وأخلاقية، تعترف بالفشل وبالمسؤولية عنه كثوار ومثقفين، هذا الفشل الذي أودى باليمن في مزالق طائفية أو جهوية أو مناطقية، حرفته عن حلمه ومشروعه الأكبر في دولة ديمقراطية، كانت حلماً من أهم مخرجات الحوار الوطني اليمني.
في مقاربته السياسيولوجية للدوافع والخلفيات السياسية والاقتصادية للثورة اليمنية، يجد الباحث "نبيل البكيري" أن انفجار الثورة في اليمن كان صدى وامتدادا لانفجار الربيع العربي في عواصم عدة، وهي تتقاطع معها في الأسباب الجوهرية، من غياب للحرية وتهميش للنخب المثقفة وإهدار للكرامة ونهب للمقدرات والثروات، وتهشيم البنى الاجتماعية الفاعلة وتسيد الفساد في إدارة الشأن العام.
يجمع الباحثون على أن حرب صيف "1994" شكلت وقودا لثورة 11 فبراير، إضافة لمشروع التوريث، الذي بدأه الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" عقب حرب 1994 ليمهد الطريق لنجله "أحمد علي"
لقد عاش اليمن زهاء نصف قرن رهين تنمية بطيئة لا تنسجم مع النمو السكاني، ولا مع احتياجات الشعب اليمني ولو بالحد الأدنى، بل كان الاتجاه بعكس المطلوب عبر إجهاض فكرة الدولة، وكان هذا عبر ما يمكن تسميته اليوم بالدولة العميقة، التي وظفت المقدرات والطاقات للحيلولة دون تقدم الدولة ومؤسساتها، هذه الدولة العميقة التي بقيت تعمل في شمال اليمن بتكتم وهدوء، وكانت تمثل بقايا دولة الإمامة "أيديولوجية الهاشمية السياسية"، ومنذ عام "1962" قامت ثورة 26 سبتمبر ضد نظام حكم الإمامي الزيدي الذي يرى فرضية حصر الإمامة والحكم في أبناء الحسن والحسين، وفي الجنوب بقيت عدن وما حولها تحت سيطرة البريطانيين لحين استقلالها عام "1967"، وكانت لحظة إعلان دولة اليمن الموحد عام "1990" لحظة فارقة في تاريخ اليمن، لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات، عاش اليمن حينها في أفضل مراحله سياسيا وثقافيا وإعلاميا، ويكاد يجمع الباحثون على أن حرب صيف "1994" شكلت وقودا لثورة 11 فبراير، إضافة لمشروع التوريث، الذي بدأه الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" عقب حرب 1994 ليمهد الطريق لنجله "أحمد علي". تلا ذلك انتكاسة العملية الديمقراطية المأمولة عبر انتخابات "1997" وما تلاها من توسيع لصلاحيات الرئيس، وكانت الانتخابات النيابية عام "2003" المسمار الأخير في نعش الحياة الديمقراطية في اليمن، كلل جميع ما سبق تفشي الفساد والفشل الاقتصادي والتنموي، فكان اليمن كمعظم بلدان الربيع العربي أمام مخرج وحيد وهو الثورة.
لم تكن الثورة اليمنية ثورة أحزاب، تماماً كما هو حال الثورة السورية، لقد كانت ثورة شبابية عفوية وإن حملت في "نواها" شباباً مسيسين، وذلك لما راكموا من وعي سياسي سمح لهم أن يكونوا ذوي حضور واضح، لقد اتسع الحراك اليمني وصار خارج إطار السيطرة، الأمر الذي أوجب تأطيرها بالساحات التي غلب على جمهورها الشباب اليمني المستقل، وذلك بمحاولة لتكبيلها وتقييد إدارتها، وكان تتويج ذلك الاحتواء عبر المبادرة الخليجية التي تعد التفافا على الثورة، ودعما لتغول القوى الحزبية التي أجهضت الثورة وزجت باليمن واليمنيين في غبار حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
لقد لعب الزيدية ومن بعدها الحوثية دوراً كبيراً في إبقاء اليمن متخلفا، وكانا من أهم عوائق التحول السياسي والاجتماعي في اليمن، لقد أبقيا اليمن رهين لحظة الجمود بين ماضٍ لا يمكن العودة إليه، ومستقبل عصي على المجيء، فكان الحاضر المتعثر المشحون بالغضب والدم والشك الموروث.
كما هي الحال في العديد من ثورات الربيع العربي كانت النخبة الثقافية مهمشة لسنوات طويلة وبلا فاعلية، لدرجة أنها في كثير من الحالات قبلت بهذا الحضور الموميائي بلا فاعلية، ولم تستطع ردم تلك الفجوة بينها وبين جماهير تقدمت عليها في الحراك الثوري، ولم تعد تصغي إلى نداءات النخب المتأخرة، وفي اليمن على وجه الخصوص كانت القراءة الخاطئة للنخب المثقفة عاملا مهما في تعجيل إجهاض الثورة اليمنية، وحرفها عن مسارها، كما أنها كانت ولزمن طويل شريكة لنظام صالح في المخاتلات السياسية، وبات اليوم على اليمنيين البحث عن نخب جديدة ربما تولد من رحم الثورة والهزيمة لتضطلع بدورها في المضي قدما خلف حلم يمني سيبقى عصياً على الموت وإن كثرت في جسده الجراح.
يعاني اليمن اليوم، كما تعاني معظم بلدان الربيع العربي، من تسيد المنطق الشعبوي والمقولات الأيديولوجية، ولن تنجح ثورة في اليمن دون الاهتمام بتمتين الصلات بمحيطها العربي "السعودية وعمان ودول الخليج العربي والقرن الأفريقي" فالدول لا تعمل بمعزل عن محيطها.
لقد سلم نظام علي عبد الله صالح اليمن برمته للحوثيين دون مقابل، وبات على اليمنيين التخلص من سيطرتهم أولاً
لقد أفادت جماعة الحوثي "أنصار الله" من تخلخل المشهد السياسي اليمني، واستطاعت أن تتسرب إلى بؤرة صناعة الحدث، لا سيما بعد أن بات توريد السلاح الإيراني إليها عصب قوة، تفتقر إليه باقي أطراف الثورة اليمنية، كما ساهم نظام صالح عبر تحالفه المخزي معهم في تسليمهم مفاتيح القرار في شطر كبير من قطاعات الجيش، وكان هذا المناخ بالنسبة للحوثيين أشبه بحصان طروادة الذي مكنها من العودة إلى حكم اليمن، ليقف اليمن اليوم أمام إقفال وانغلاق في المشهد السياسي والحياتي، يتمثل بسيطرة الحوثيين على مفاصل القوة ومفاتيح التغيير، لقد سلم نظام علي عبد الله صالح اليمن برمته للحوثيين دون مقابل، وبات على اليمنيين التخلص من سيطرتهم أولاً.
يبقى اليمن ومستقبله المأمول رهينا للإجابة عن أسئلة المستقبل، التي تستوجب إجابات عملية عبر مراجعة أسباب الفشل وسبل تجاوزها، هذا الأمل معقود على جيل يتشكل اليوم من رحم الثورة وينضج عبر جمر الأزمات، إنها مهمة تشبه المستحيل، لكنها لا تستسلم له، فمن طبيعة الحياة أن هامش الممكنات يبقى هو الأمل الوحيد للأحياء، وإن إرادة الشعوب تنتصر في النهاية، وإن التغيير نحو مستقبل أفضل آت لا محالة، وإن الثورة الكلية عبارة عن سلسلة متتابعة من الثورات التي تنجز كل واحدة منها حلقة في تلك السلسلة الممتدة امتداد الحياة، ربما تكون الثورة المغدورة في اليمن قد أنجزت فرضها بكسر جدار الصمت والخوف الذي كان مهيمناً لعقود، وينتظر اليمنيون اليوم ثورة أخرى تكمل ما بدأ.