دراما المافيات

2022.04.28 | 05:36 دمشق

209202.jpg
+A
حجم الخط
-A

ربما يمكن اختصار المسألة في السؤال التالي: هل يمكن أن يكون لدينا فن تقدمي يخدم قيما إنسانية أو سياسية راقية في ظل نظام قمعي استبدادي مغلق؟

الأجوبة قد تكون متفاوتة، بحكم أنه قد تبرز محاولات هنا أو هناك للإفلات من قبضة الرقيب الأمني، فيما لو وجدت أصلا مقومات الإنتاج السليمة من نصوص وإمكانيات مادية وفنية، لكن التقويم العام يظل سلبيا.

ما تعرضه الشاشات هذه الأيام من مسلسلات سورية لا يمكن الحكم عليه بمعايير فنية وحسب، دون الأخذ بعين الاعتبار مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها سوريا خلال العقد المنصرم، بل خلال العقود الخمسة الماضية منذ استولى آل الأسد على السلطة، وهي حقبة تغطي في الحقيقة معظم مسيرة الدراما السورية المعاصرة التي تبلورت ونضجت خلال هذه الفترة، وظلت خلالها حبيسة النظرة الأمنية للنظام، بغض النظر عن أية طفرات هنا وهناك، حتى أنه منع على هذه الدراما التطرق إلى فترات مفصلية من تاريخ سوريا الحديث، وتحديدا ستينيات القرن الماضي، حيث كان حافظ الأسد وعصبته يحضرون أنفسهم للانقضاض على السلطة، فغيبت عن هذه الدراما أسماء فاعلة من تاريخ سوريا الحديث، منهم رؤساء جمهورية وزعماء بارزون، وحتى أننا لا نعثر على مسلسل أو فيلم سينمائي واحد أو عمل مسرحي سوري، رصد تلك الفترة، ليضاف إليها لاحقا فترة الثمانينيات التي شهدت مجازر ارتكبها النظام تحت يافطة الصدام مع الإخوان المسلمين، إضافة إلى الصراع على السلطة الذي شهدته بين حافظ الأسد وأخيه رفعت.

أما التناول المجتزأ والمحرف من جانب بعض المسلسلات السورية لما يجري في سوريا منذ عام 2011، فهو لا يعدو أن يكون محاولات لدعم رواية النظام عن هذه الفترة، بوصف ما يجري بمؤامرات خارجية استقدمت متطرفين أجانب للعبث باستقرار البلاد، دون أن يخدش من هذه الحقيقة بعض المحاولات لرصد وجود بعد شعبي لهذا الحراك، لكن قوامه أناس جرى التغرير بهم وسيقوا بالإغراء أو التضليل نحو مواضع أخرى بعيدا عن غاياتهم الطيبة.

أما التناول المجتزأ والمحرف من جانب بعض المسلسلات السورية لما يجري في سوريا منذ عام 2011، فهو لا يعدو أن يكون محاولات لدعم رواية النظام عن هذه الفترة

وما عرض في رمضان هذا العام لا يخرج عن هذا السياق الذي يفبرك في الواقع بما ينسجم مع أهداف النظام الأمني من جهة، وما يفصح عن هوية المافيات المتربحة من الحرب من جهة أخرى، بوصفهم قوى موازية ومكملة للأجهزة المخابراتية، ومدعومة منها، وأنه باتت هذه الأجهزة لم تعد تعمل بروح الفريق الواحد، نظرا لحالة التنافس فيما بينها، وتمايز تبعيتها الداخلية والخارجية.

وبطبيعة الحال، ما تتناوله مسلسلات رمضان اليوم لا علاقة له بالشهر الفضيل لا من قريب أو بعيد على نحو ما كان يحصل في سنوات غابرة قبل تغول الأجهزة الأمنية في المجتمع. فالمسلسلات التي تعرض اليوم مليئة بالعنف والفجور والشذوذ، بعيدا عن هموم الناس اليومية حيث نصف سكان البلاد مهجرون والنصف الثاني تحت خط الفقر. إنها دراما من نوع الفانتازيا المتذاكية التي تكرس العنف وسيلة لتحقيق الأهداف والعلاقات الأسرية المريضة. أما الفساد المستشري فلا يتم رده الى أصله، بل يصور كنمط حياة طبيعي غير ذي صلة بالنظام السياسي القائم الفاسد.

وفي النتيجة نحن أمام مشهد كئيب يروج للفساد والجريمة بوصفهما الأداة الوحيدة المتاحة لجمع الثروة والوصول للنفوذ والسلطة، وينبذ قيم الحق والجمال والأمل، في مسعى للإجهاز على ما تبقى من روافع إيجابية في المجتمع. إنها تكريس لعقيدة "المنتصر" في الحرب، أو الذي يظن نفسه المنتصر، حيث كل شيء مباح ما دمت تملك الظهر والسند والمال كما ورد على لسان إحدى الشخصيات في واحد من هذه المسلسلات. وهذا لا يحتسب في باب الأمانة في نقل الواقع كما هو، لكنه تكريس لهذا الواقع، لأن الضعيف وصاحب الحق لا مكان له إلا السجن أو القبر أو يعيش طريدا في بلاده حتى يعثر على فرصة للهروب منها. هذه ما تقوله هذه المسلسلات، وهذا ما يشهد عليه المواطن السوري في حياته اليومية.