icon
التغطية الحية

"دافيد لوبروتون" وأسئلة الجسد العربي

2022.08.15 | 08:32 دمشق

فلسفة
+A
حجم الخط
-A

يعتبر دافيد لوبروتون واحدا من أبرز الأنتروبولوجيين في فرنسا، وربما في أوروبا، ولأبحاثه أهمية خاصة نتيجة اشتغاله على مجالات كانت تعتبر هامشية بالنسبة لعلماء الاجتماع. وغابت عن اهتمام علماء الأنتروبولوجيا أيضا. إذ إن لديه قدرة كبيرة على متابعة المعاني والدلالات المتشعبة، والأبعاد الرمزية للسلوك الإنساني بالاستناد إلى محددات علم الاجتماع وأدوات البحث الأنتروبولوجي.

يتصف دافيد لوبروتون بالمثابرة الجادة، إذ لا يمرّ عام دون أن ينجز كتابا. وكعادته يتنقل بين الثقافات في محاولة لتوثيق مرجعيات واقعية لدراساته. من تلك المؤلفات كتابه "أنتروبولوجيا الجسد والحداثة". المبني على تموضع الثقافة الفردية في المجتمع الليبرالي. حيث أصبح الجسد مقرونا بالملكية، لا بالكينونة بحسب تعبير مارتن هايدغر. وبقي الجسد العربي الموزع في أقاليم وأمصار متعددة، ومتنوعة، ومتباينة أحيانا، بقي ذلك الجسد بعيدا عن تلك الدراسات. وما قام به علماء الاجتماع العرب من دراسات اقتصر على أماكن بعينها، لقلة المشتغلين بالأنتروبولوجيا من جهة، ولعدم انتظام العالم العربي بثقافة توحده. فاختلاف العادات والتقاليد واللهجات، ومساحته الكبيرة، وتعدد دوله، واختلاف أنظمة الحكم. كل ذلك حال دون وجود دراسة تضع الجسد العربي في بحث واحد.

إن ما قدمه لوبروتون في كتابه" أنتروبولوجيا الجسد والحداثة" هو صورة واقعية، تفصيلية، لمداليل مفهوم الجسد، وطرق التعامل معه في الثقافة الغربية. فالجسد في المجتمعات الليبرالية هو علامة الفرد، ومكان اختلافه وتميزه. إذ إن وجود الإنسان هو وجود جسدي بالدرجة الأولى، أيّا كان هذا الإنسان. وبدون الجسد لن يكون الإنسان ما هو عليه. وقد توقف لوبروتون عند تلك البديهة، من حيث إن البداهة هي أقصر الطرق للوصول إلى السر. لذلك تراه يقول: "إن كل مجتمع يرسم في داخل رؤيته للعالم، معرفة مفردة حول الجسد: مكوناته، تعابيره، اتصالاته، ويعطيه معنى، وقيمة".

تاريخيا، الاقصاء الذي تعرض له الجسد الإنساني في الشرق والغرب على حد سواء، متشابه من حيث النتيجة. لقد تعرض مفهوم الجسد عبر مجالين معرفيين وأساسيين (الفلسفة والدين)، تعرض إلى تجاهل لحد الإقصاء!! إذ إن الفلسفة عبر تاريخها، وضعت الجسد موضع المتهم!! سقراط، أفلاطون، واستمر ذلك إلى رينيه ديكارت (1596-1650)، وعبارته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود". وكذلك فريدريش هيغل (1770-1831)، في كتابه" فينومونولوجيا الروح"، حيث الأولوية لما هو عقلي" كل ما هو عقلي فهو واقعي". إلى أن نصل إلى فريدريك نيتشه (1844-1900)، الذي أعاد للجسد اعتباره، في كتابه "هكذا تكلم زرادشت". حيث اعتبر العقل بعدا من أبعاد الجسد. وحمل على الفلسفة الأفلاطونية واعتبرها تفتقر إلى الحياة. وأعلن أن الجسد هو العقل الكبير، في مقابل العقل الصغير الذي هو الوعي.

لم تستطع الدراسات التي تناولت الجسد العربي  ترسيخ ثقافة تنتمي للمستقبل، لأنها تناقش الجسد في بعده الدلالي، وليس المرجعي، المحكوم بالسياج الفقهي

إلا أن المسائل الاجتماعية لا يمكن اختزالها من سياق تاريخي كلّي، فالثورة الفرنسية (1789) التي جسدت انتصار الأفكار العلمانية، وما أحدثته تلك الأفكار في أوروبا، والثورة الصناعية التي شهدتها بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر، وما أحدثته تلك الثورتان من تحولات وتغيرات، والضعضعة التي تعرضت لها الحياة التقليدية، والتغيرات التي كانت تقتضي من مفكري القرن التاسع عشر استيعاب النتائج التي أحدثتها هاتان الثورتان، والإجابة على الأسئلة المحتملة، والتي كانت تتمحور حول ماهية الطبيعة الإنسانية. كل ذلك أدى على صعيد العلوم الاجتماعية إلى نقلة نوعية، مماثلة للتحولات التي عاشها المجتمع الأوربي في ذلك الوقت.

في تلك الفترة كان الوطن العربي يعيش انقطاعا حضاريا، آنذاك أثيرت أسئلة من نوع آخر، أسئلة تخص الهوية، والاستقلال.

بكل الأحوال -يمكننا القول- إن القيم والمعايير الثقافية تتغير بمرور الزمن، وهذا التغيير قلما تنجو منه جماعة أو أمة. وفي هذا الزمن الحافل بالتغيرات، والذي توفرت فيه السبل لانتقال السلع والناس والأفكار والمعلومات، أصبح التغيير من البديهيات، والصراع بين القيم الموجودة، والقيم القادمة أمرا يكاد يكون حتميّا. ومفهوم الجسد في صلب هذا الصراع، ففي ثقافة المجتمع ثمة جوانب مضمرة مثل المعتقدات والقيم، وثمة جوانب عيانية تمثلها الأشياء، ومشكلة الجسد أنه موجود في الحالتين (المضمرة والعيانية)، فكثير من المعتقدات والقيم تقع عليه، وكثير من الأشياء أيضا، ومنها الأزياء، وطرائق الزينة على سبيل المثال. وهذه التحولات التي طرأت على طريقتنا في المأكل والملبس والمسكن نخطئ إذا اعتبرناها شكلية، ولا تمس البنية الثقافية للمجتمع العربي. رغم التنوع الموجود في بنية هذا المجتمع، والتباين الشديد بين مراكز المدن والريف، واختلاف العادات والتقاليد، والمعايير الثقافية التي تستظل بها. وتعدد الثقافات الفرعية، الإثنية واللغوية والعقائدية. فرياح التغيير قد عصفت بالمجتمع العربي، وسواه من المجتمعات. وأسئلة الجسد وإن كانت تقال بصوت خفيض، إلا أنها أصبحت مسموعة.

من حيث المبدأ يمكننا القول إن مفهوم الجسد لا يمكن النظر إليه في ذاته، كما في علوم التشريح والفيزيولوجيا، فالعناصر التي تعطيه معناه، مرتبطة بنظرة المجتمع إلى تلك العناصر، وبتأثير تلك العناصر على نظرة المجتمع، وهذا أحد أسباب التمييز بين دراسة الجسد الأنثوي، والجسد الذكري. لا بل إن كلمة جسد أو جسم أول إحالاتها في الثقافة العامة تحيل إلى الجسد الأنثوي. ولذلك أسبابه المرتبطة بالعادات والتقاليد التي ما زالت تنظر إليه على أنه عورة، ويُطالب المجتمع بغض البصر عنه إذا انكشف، لأنه فتنة. والفتنة هنا تحيل إلى إثارة الغرائز. وهذا ما يجعلنا حين نتحدث عن الجسد العربي نفرّق بين جسد الرجل، وجسد المرأة. فلكل منهما حمولاته الثقافية التي تتأرجح بين الانصياع والانزياح، كما تقول الباحثة المغربية العالية ماء العينين. فالمخيال الجمعي لشرائح مختلفة من المجتمع العربي ما زالت تهيكله ذاكرته الثقافية. لذلك لم تستطع الدراسات التي تناولت الجسد العربي من ترسيخ ثقافة تنتمي للمستقبل، لأنها تناقش الجسد في بعده الدلالي، وليس المرجعي، المحكوم بالسياج الفقهي. وهذا ما يجعلنا حين نتحدث عن الجسد الأنثوي، وكأننا نتحدث عن غائب! إذ لم تتبلور بعد الهوية الأنثوية في شقيها البيولوجي والسوسيوثقافي،  على نطاق ضيق. فبذرة اليوم، شجرة الغد.