(1)
أوّل ما خطر لي عندما عبرت جسراً على نهر السين أن باريس لم تشذّ عن القاعدة القديمة لنشأة المدن، فهي مدينة ازدهرت على ضفاف نهر، تماماً كمدن العالم القديم التي نشأت على ضفاف دجلة والفرات ونهر العاصي. وككل قاصدي الأنهار في التاريخ، فقد كان سكان باريس قبل ألفي سنة مجرد رعيان للماعز انحدروا من عشيرة الباريزي الجرمانية التي أعطت اسمها للمدينة مع الزمن. لكن هذه العشيرة تحضّرت طبعاً، تحضّرت جداً حتى إنها الآن تصدّر العطور واللانجيري لكل أنحاء العالم. ومع أني لم أشاهد معزاةً واحدة في باريس، إلا أن جبنة الماعز من أكثر أنواع الجبنة رواجاً وأغلاها ثمناً. فالعشيرة ما تزال تختبئ في قطعة الجبن.
(2)
عندما احتلّ الألمان باريس في الحرب العالمية الثانية، قالوا إنهم جاؤوا ليؤدّبوا الفرنسيين لأنهم "فلتانين"، ووزّع الألمان مناشير دعوا فيها أهل باريس إلى تقوى الله والالتزام بالآداب العامة. الفرنسيون انتصروا على الألمان في نهاية المطاف واستردّ الباريسيون مدينتهم، بما فيها قوس النصر الذي يخلّد بطولات الجيوش الفرنسية منذ عهد نابليون حتى اليوم. وهكذا أضافوا إلى نقوش القوس لوائح شرف تضم أسماء أشخاصٍ من المقاومة الباريسية سقطوا خلال معارك التحرير في الحرب العالمية الثانية. ها هو قوس النصر أمامي إذاً يشهد على انتصاراتٍ كثيرة من بينها الانتصار على "تقوى الله" و"الآداب العامة"، فقد رأيت رجلاً قبل قليل يتبوّل أمام الناس في شارع الشانزليزيه. كما أني مررت بكثيرٍ من المشردين ينامون في الطرقات، وشاهدت مُلصقاً كبيراً على واجهة أحد الأبنية يظهر رجلاً يقبّل رجلاً آخر من فمه. لكن للمفارقة، فإن الألمان أيضاً انتصروا مع الوقت على تقوى الله والآداب العامة، فمدينة برلين كما لاحظت تتشارك مع باريس في معظم نواقصها، باستثناء تبول الرجال في الطرقات والأماكن العامة. إذ يبدو أن الألمان أكثر كَرَماً من الفرنسيين في الإنفاق على المرافق العامة.
(3)
أثار استغرابي عندما مررت بكاتدرائية نوتردام في باريس بعد أن افتُتحت للجمهور من جديد هذا التصميم على إعادة ترميمها من قبل الدولة بعد حريق عام 2019. إذ ليس هناك نقصٌ في الكنائس في باريس، كما أن الكنائس هنا مغلقة في جلّها ولا تقام فيها الصلوات. يمكن تفسير الأمر عندي بحقيقة أن الأوروبيين عموماً والفرنسيين على وجه الخصوص يميلون للتأكيد على الهوية المسيحية لأوروبا رغم غلبة الإلحاد والعلمانية. ولا يهدف الأوروبيون من وراء هذا الإصرار إلا لإثبات تمايزهم عن العرب والمسلمين، مع أنهم بإصرارهم هذا إنما يثبتون العكس. فالمسيحية في النهاية، كما الإسلام، هي ديانة ولدت في الشرق العربي. والقيم التي تنادي بها المسيحية هي لليوم قيم العائلة والعشيرة والإيثار والإحسان والعفّة، وغيرها كثير من المفاهيم التي اختفت تقريباً في عالم الفردانية والشراهة والإباحية الذي يعيش فيه الأوروبيون. ولذلك فكثير من سرديات التمايز عند الأوروبيين هي برأيي نوستالجيا مبطّنة ونزعة عميقة لـ "العودة إلى الرحم"، أمام حالة من خيبة الأمل وعدم الرضا عن الذات. ولو لم يكن حال العرب والمسلمين على ما هو عليه من كسل وجبرية وتمسك حرفي بغيبيات العقائد، لكانت أوروبا أميل للتواضع مع العرب والتصالح مع جذورها الشرقية.
(4)
التقيت أبو بكر الفرنسي في المكتبة الوطنية في باريس. قلت له: "أنت تتكلم العربية الفصحى بطريقةٍ رائعة، لكن لماذا اسمك أبو بكر؟" قال أبو بكر: "أنا اسمي الحقيقي هو سيلفان، لكني غيرت اسمي من أجل هذا الدين." قلت له: "أي دين؟" قال أبو بكر: "الإسلام! لقد غيرت اسمي من سيلفان إلى أبو بكر بعد أن اعتنقت الإسلام." أبو بكر شاب مهذب ولطيف جداً، وليس ذنبه أبداً أني تذكرت بلقائه الدواعش الفرنسيين الذين تركوا صبايا باريس وذهبوا لقتال الجيش الحر في سوريا. فالرجل الذي أمامي متزن ولطيف، ولو أنه متشددٌ قليلاً كما اكتشفت لاحقاً. ففي اللقاء الثاني معه، لم أشأ أن أكسر بخاطره فتظاهرتُ بالتدين وأداء الصلوات الخمس... إلخ، وتجرّأت فقط بأن صارحته أني لا أؤدي صلاة الجماعة في المسجد، فاستنكر أبو بكر ذلك بشدة وأعاد عليّ الحديث النبوي: "صلاة الرجل في جماعةٍ تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفاً." لم يترك أبو بكر الفرنسي لي جواباً، ولم نلتق بعد ذلك.
(5)
غادرت باريس غير متأسفٍ ولا متردد عبر محطة الباصات المركزية في العاصمة، وهي أوسخ محطة باصات أراها في حياتي. هذه الوساخة المقززة والمثيرة للاستغراب بحقّ هي، بتصوري، ليبدو زمن العصور الوسطى متجلياً في حاضر عاصمة النور. يحكي لنا التاريخ أن مستويات النظافة في أوروبا لم ترتفع إلا بعد الحروب الصليبية واختلاط الأوروبيين بشعوب الشرق. ثم لما طُرد العرب من إسبانيا صدرت قراراتٌ تقضي بسجن كل من يُلقى القبض عليه متلبساً في واحدٍ من الحمامات العامة التي تركها العرب وراءهم. كانت النظرة للحمامات والنظافة في ذلك الزمان تعتبر بمنزلة تبعية ثقافية للغازي اللعين الذي تم طرده تواً. وهكذا صحّ على الأوروبيين قول الحمويين في أمثالهم: "نكايةً بالطهارة، تبَوّلَ في ثيابه".