خطيب بدلة وروايته الأولى "أبو دياب يتكلم في الأفراح"

2020.03.19 | 00:01 دمشق

ghlaf-abw-dyab.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يفاجئ خطيب بدلة قرّاءَهُ باقتحامه مجال الرواية فحسب، وهو الكاتب المميز بقصصه الساخرة، بل إنه أتى، وبالشجاعة كلها على كسر قوالب ما يعرف بثلاثي "التابو" الجنس والدين والسياسة.. وفق إطار جديد من شكل الكتابة ومفرداتها تاركاً للقارئ التبصر فيما هدف إليه من كتابته، فالجنس محظور كتابياً لا في المجتمع السوري فحسب بل لدى طليعته من الكتاب التي يفترض أن تكون الأكثر وعياً وأفقاً، وأن تقوم بدور التوعية المنوط بها في الدولة والمجتمع.. والمقصود بتابو الجنس عدم مناقشته لا كمشاهِد جنسية في عمل روائي، بل كمسألة تُلازم حياة الإنسان، وتسبب له في أحيان كثيرة أمراضاً نفسية ومشكلات اجتماعية تنغص عليه حياته.. أما الدين الذي له قدسيته فإنَّ الروائي لم يمسه مباشرة، ولكنه أتى على التشكك بممارسة فروضه وطقوسه، ومخادعة بعضهم بها ما يوحي، على نحو أو آخر، بعدم القناعة أو بوجود تبرير لعدم القيام بواجباتها أو ممارستها مراءاة أمام الناس، وأن الناس أخذوا يدركون بفطرتهم تلك الفجوة الكبيرة بين قيم الدين النظرية وممارستها على أرض الواقع.. أما السياسية فهي موضوع الرواية كلها إذ تتسربل أحداثها بأخبار المظاهرات والمعتقلات وردود أفعال الناس تجاهها والتبدلات في مسار القوى المساهمة بها.. إلخ

تلازم الشكل والمضمون

ولعل الكاتب أراد أن يوائم بين الشكل والمضمون، فتجرأ على لغة الأدب، أي اللغة العربية التي لها من القدسية ما للدين والقيم الاجتماعية والأخلاقية أيضاً.. وقد أثار الكثير من التساؤل إذ إن الرواية أيضاً تتناول بدايات الثورة السورية التي تكتسب، بما تهفو إليه من قيم وطنية واجتماعية، نوعاً من القداسة أيضاً.. لكن الكاتب مدرك لما يقوم به، وما يمكن أن تثيره روايته من ردود أفعال، فقدَّم لقرائه نصيحة ثبتها في الصفحة الأولى من الرواية تحت عنوان هام جداً جاء فيها ما يلي:

"مَنْ كان منكم، إخوتي القراء، وأخواتي القارئات إنساناً مهذباً، مُرَبَّيا في بيت أهله تربية حسنة، خجولاً يمكنُ خدشُ حيائه بسهولة، فليمتنعْ عن قراءة هذه الرواية، وليَنْصَحِ الذين يحبهم ويريد لهم الخير أن يمتنعوا عن قراءتها". ص5 وأكثر ما يعنيه هذا الكلام الشرائح الاجتماعية المحافظة التي تقف ضد الثورة كإعادة بناء على غير صعيد، بما في ذلك الصعيد الاجتماعي، والثقافة الاجتماعية..! وقد برر الكاتب في المقدمة إياها أن اللغة التي استخدمها تنوع بين لغة الأدب ولغة "الأزقة". ولم يقل هنا لغة المجتمع الدارجة أو اللهجة العامية بل كلمة الأزقة التي تعني الفئات الاجتماعية الدنيا أي ما يعرف بالسوقة.. وقد أراد، فيما أعتقد، التماهي بما خبره من مساهماته في المظاهرات الأولى في مدينته إدلب..!

الرواية وشخوصها

يقدم الكاتب روايته من خلال أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى في المجتمع فالأم السيدة فدوى وابنها نذير الدايخة (أبو دياب) الشاب الثلاثينيّ الذي أعطى الرواية عنوانها، عازب، لديه موهبة الفن (النحت) إضافة إلى أخوين موظفين: نادر وعمار.. وأخت "يارا" متزوجة من رجل ثري يكبرها في العمر ولا يتمتع بسمعة حسنة.. إضافة إلى شخصيات أخرى متعددة تكمل الحدث الروائي وتكشف عن جوهره منها وإبراهيم البربروسي وفوزية أخت أم نذير وزوجها.. وجار الأسرة عبد الكريم الطحنجي الذي له دور رئيس في قضايا كثيرة.. إضافة إلى علاقات الأسرة بالأقرباء والجيران والأصدقاء.. ويلاحظ أن الأسرة كلها تعيش أزمات مختلفة في داخلها، ولديها أوجاعها، والكل أو معظمهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المفترض أن تكون أكثر استقراراً فكأنما أراد الروائي الإشارة من خلال هذه الأسرة إلى أنَّ المجتمع كله مأزوم وأنّ وجعه شامل وإلا ما معنى قيام الثورة..؟!

قراءتان للرواية

ثمة قراءتان للرواية الأولى قراءة ظاهرية مسلية تمنح المتلقي متعة الفرجة، وإعمال الخيال من خلال تصوُّر أشخاصٍ متنوعي المنابت والمواقع الاجتماعية يمارسون حياة عادية فيها شيء من الاستثناء، أو الغرابة، ويتخاطبون بلغة قد لا تناسب الأدب الروائي إلا في بعض ألوان الحوار، لكنها هنا لغة تنساب عفوياً على ألسنة الشخوص فيأتي تعبيرها أكثر بلاغة، وما يزيد القارئ متعةً تلك السخرية اللطيفة التي تبالغ في تجسيد الحدث وإظهار مفارقاته!

أما القراءة الثانية فتغوص في خلفيات الحدث، ومشاهده المرسومة بعناية ربما لتفرض على القارئ الذهاب بعيداً عن السطحية والمباشرة وخصوصاً أن الروائي كاتب متمرس بحرفة الأدب فما أظنه كتب على ذلك النحو إلا للدخول إلى عمق أمراض الناس الاجتماعية والنفسية بسبب عادات وتقاليد مستمدة من عصور تجاوزها التطور الموضوعي للحياة وأدواتها وناسها وعلاقاتها المتشابكة بعضها ببعض! ولعله أيضاً يثير سؤالاً مهمّاً هو: كم من ثورة يحتاجها مجتمعنا للتخلص من وجعه وتخلفه؟!

الرواية والجنس

تعج الرواية بالجنس وإذا ما تتبعنا مسار شخصية عبد الكريم الطحنجي (أبو إسماعيل) فإنها تضيء جوانب جوهرية في الرواية، فالرجل خمسينيّ لا عمل له بعد تقاعده من وظيفته غير الجلوس على الرصيف، جانب باب منزله، بعد تنظيفه وغسله بالماء ثم النظر إلى مؤخرات النساء اللواتي يمررن في الشارع.. وأكثر ما تلفته، وتشغل باله جارته أم نذير الدايخة "السيدة فدوى" وهي معلمة متقاعدة في منتصف الخمسينيات من عمرها، لم تفقد معالم حسنها، ولم تفارقها رغبة المتعة بما في الحياة من مباهج.. يراها عبد الكريم في أخيلته وأحلامه، وتزعجه باستقبالها الشاب "إبراهيم البربروسي" الذي لا يمت لعائلتها بصلة. يعود الكاتب من خلال تداعيات سردية إلى حياة عبد الكريم  مرتباً عدة حوادث تسلط الضوء على الكبت الجنسي الذي يعيشه، ما يدفع والده إلى تزويجه قبل أن يجلب له الفضائح إذ إن شكوى أتته من المدرسة تقول بأنه لامس بوسَطِه المنتفخ زميلاً له في مؤخرته أثناء الانصراف من المدرسة، ثم ليضبطه على السطح يتلصص من خلف ستائر النافذة على ظلال جاره المتزوج حديثاً، وليمارس بعد ذلك عادته السرية بعد أن يكون قد شحنه الخيال..! وثمة حوادث أخرى يمرُّ بها ليأتي زواجه كما يتصور الأب كحل نهائي لأزمته الجنسية ومعاناتها التي ترافق الإنسان في مجتمعنا منذ اليفاعة وحتى آخر العمر، لكنَّ الزواج لا يحلها بل تظل تحيا داخله ليمارسها خارج إطار الزوجية، فالجنس يمارس لذاته فحسب، ولمتعته المادية، أي خارج إطار مفهوم الحب أو الانسجام أو التفاهم على الأقل.. وقد لفتت الرواية القارئ إلى هذه الناحية، في مقابلة مع حالة أخرى قد تكون معاكسة تماماً، وذلك من خلال حوار يدور بين نادر الدايخة (ابن السيدة فدوى) وزوجه إلهام بعد أن أخذته ظنون خيانتها له إثر حادثة ولَّدت لديه التشكك، وكانت إلهام قد غادرت البيت تاركة ولديهما، وأوشك الزوج على طلاقها، لكنه يفاجأ بعودتها بعد أيام، فينسى ما كان منه.. لكنه يفاجأ باقتراحها الذي يربط ممارسة الجنس بالمحبة والوئام..

"قال نادر: إلهام أنا بحبك، لم تُفَاجَأْ بسماع هذه العبارة. قالت: بعرف إنك بتحبني. وأنا كمان بحبك. بس هادا الحل لا بد منه. إنته بتطلقني، ومنبقى عايشين سوا في هادا البيت، وأنا بقوم بكل شي ضروري للبيت.. قال: طيب أشو اللي اختلف؟ قالت: إذا رجعنا متلما كنا، وبقيت أنا مَرْتَك، راح تبقى تفكر بإنّي مَرَا خاينة. وهاد من حقك. لكن إذا طلقتني أكيد ما عاد تفكر بهاد الموضوع، لأني أنا بوقتها ما بكون مرتكْ، ومو من حقك تقول عني خاينة.. قال: وإذا تطلقنا ما عاد فينا ننام مع بعض؟! قصدي متلما بينام الرجل ومرتُه؟ قالت: منام مع بعضنا في حالة وحدة بس. قال: أي حالة؟ قالت: لما منكون أنا وإنته حابين بعض ورايقين ومكيّفين. أبداً مو ضروري نعملها بحكم العادة أو فَضّ عَتَبْ. قال باستغراب: بتنامي معي وإنتي مطلقة؟ قالت: أنا نمت معك مية مرة قبلما نتجوز.. أشو الفرق؟" ص194

إدانة النظام والتطرف الديني

وإذا كان ذلك شأن الجنس الذي عجت به الرواية فإن السياسة موضوع الرواية الرئيس قد أرَّخ لتلك المرحلة من الثورة السورية زماناً ومكاناً وأتيح لبطلها الرئيس نذير الدايخة "أبو دياب" أن يفضح بـ: مونولوجاته الطويلة سياسية نظام القمع التي تمارسه أدوات السلطة من أمن وعسكر وحزب ما جعل الشعب يتمرد عليه..! يقول نذير لأمه الحزينة لأجله لدى خروجه من المعتقل:

"هلق إذا بقول لإمي إني أنا أقل واحد آكل قَتْلْ بين المعتقلين يمكن ما تصدقني. يا إمي أي فرع أمن موجود في سورية لما بتعيشي فيه بتظنّي نفسك قاعدة في المسلخ.. العناصر الموجودين في الفرع كلياتهم حاقدين علينا. ليش هالحقد كله؟ ما بعرف". ص247

أما عن إدانة التطرف الديني فقد أبرزت الرواية حالات التطرف من خلال مقارنة بينه وبين ما كان سابقاً من أحزاب دينية نموذجهم "الأخوان المسلمون.." "قال إبراهيم: لأنُّه فِكْرْ الإخوان ما عاد يُشْبِعْ ميلْ هدولْ الأشخاص للعنف والاعتداء ع الناس والحريات العامة. الإخوان في عندهم شوية تأثُّر بالمرحوم مصطفى السباعي، وفي منهم قريبين من تفكير الأستاذ عصام العطار المعتدل، وفي قسم كبير منهم بيحكوا بشي اسمه "الدولة المدنية".. هلق الكل، حتى الشباب اللي كانوا من زمان يشربوا عرق و"يني.. و" ولادْ، صاروا متطرفين. ولا تنسى إنه التماثيل تبعك بنظرهم أصنامْ". ص250

وفي جلسة جمعت كلاً من عبد الكريم الطحنجي وإبراهيم البربروسي ونذير الدايخة دار الحوار التالي حول اقتحام المتطرفين منزل أبي دياب: "قال عبد الكريم: يا "أبو دياب" إنته لازم تحمد ربك على إنُّه القصة انقضتْ بتفتيش البيتْ وتكسيرْ التماثيل. لو كنتوا إنته والست الوالدة في البيت كان ممكن يئذوكُم. قال أبو دياب: أشو عم تحكي يا جاري؟! ليش أنا وأمي أشو عملنا؟! نحن أكترْ ناسْ مشينا مع الثورة.. قال إبراهيم: عن أينا ثورة عم تحكي يا أبو دياب؟ اللي لمسناه بإيدنا إنُّه الثورة بالنسبة لهدول ما بتعني شي. بصراحة؟ إذا بقيت الحالة هيك، الناس بدها تعيدْ ترتيبْ أولوياتها. وأنا بالأولْ.." ص 251

كلمة أخيرة

قد تكون الرواية جديدة في شكلها ومضمونها وقد تكون جديدة أيضاً على ذائقتنا الأدبية، لكنها جديرة بالقراءة والاهتمام فهي تأتي في مرحلة مفصلية من تاريخ سورية، وتعكس واقعاً رجراجاً.. وفي العموم لا يوجد في الأدب حكم  موحد وخصوصاً إذا كان العمل قد أتى بجديد ما..!