خطاب الانفصام الأكاديمي

2021.07.19 | 06:02 دمشق

000_9f94tl.jpg
+A
حجم الخط
-A

عند مقاربة ما حدث في سوريا، لا يستطيع رأس "نظام دمشق" إلا أن يكون منفصماً عن الواقع، حتى ولو استخدم في خطاباته مفردة "الواقع" بشكل متكرر، كي ينفي عن نفسه صفة وحقيقة الانفصام. ولا بد أن هناك من لفت انتباهه إلى هذا الحال في خطاباته السابقة، فسعى في الخطاب الأخير إلى تغليف الانفصام بمرافعات أكاديمية أتت على شكل محاضرة فاقمت حالة الانفصام، وعكست سلوكاً متأصلاً يصعب علاجه أو تغييره. ومن هنا، تكررت عبارة "بعيداً عن التنظير وانطلاقًا من الواقعية".

ومعروف أن مَن فيه داء، هو أكثر الناس تفكيراً به، والتحدث عنه؛ وأقل الناس وطنية- بالممارسة لا بالعاطفة- أكثرهم الحديث عنها؛ وخاصة إذا كان يرى أنه هو الوطن، ويعتبر أن ذلك يجب أن يكون من البدهيات أو المسلمات.

في خطاباته السابقة، عكست عبارة "المجتمع المتجانس" بتجلياتها ومعانيها نزعة انفصالية انفصامية تُبَعْثِر المجتمع السوري أكثر، وترمي مسؤولية ما حدث من كوارث على مَن لا تنطبق عليهم معايير "المجتمع المتجانس" الوطني الأسدي، بحكم أنه هو الوطن، وهو الوطنية. في خطابه الأخير، وسّع "البيكار" ودخل في تحليل بنيوي للنفس والاجتماع والتربية السورية عامة. فمسؤولية ما حدث في سوريا تقع على الشعب عامة حسب مضامينه. فهناك /غياب للقيم/، و/ضعف في الانتماء/، و/اهتزاز في العقيدة/، و/غياب للمرجعية الأخلاقية/. وذلك برأيه ما دفع هؤلاء المصابين بتلك الأمراض لعدم الوقوف مع الوطن، والمراهنة على سقوطه؛ وها هي رهاناتهم تسقط، ويبقى الوطن؛ أي يبقى هو؛ والدليل "البعيد عن التنظير المنطلق من الواقع" أنه يؤدي القسم أمام الجمهور "المتجانس" الموافق المصفق.

النظام باع الوطن ومقدراته وسيادته واستقلاله ووحدته للميليشيات والاحتلالات الإيرانية والروسية كي يبقى

وبالطبع وضع تلك المثالب في المجتمع "اللامتجانس" في سياق قابليته للارتباط بالخارج والمراهنة عليه، والانخراط في المؤامرة الدولية الخارجية الكونية، وبيع الوطن؛ ناسياً أو متناسياً في مرافعاته الأكاديمية أن أحد المولدات الأساس لتلك الأمراض هي ممارسات المنظومة الاستبدادية؛ والأخطر ما في هذه الممارسات أن هذا النظام باع الوطن ومقدراته وسيادته واستقلاله ووحدته للميليشيات والاحتلالات الإيرانية والروسية كي يبقى.

محاولات تغليف الانفصام بمرافعات أكاديمية استلزمت الدخول في تفصيلات حول الكارثة الاقتصادية التي حلّت بسوريا. وهنا تكشفت التناقضات، وتجلّت الأوهام، وسقطت مقولة الخطاب: "بعيداً عن التنظير، وانطلاقاً من الواقع". فأرصدة المليارات التي جُمّدت في مصارف لبنان، والمليارات التي تمت سرقتها وتهريبها، والإجراءات الإدارية المتخلفة والفاسدة، والقوانين التي تُدعَس، وبيئة الاستثمار الملوثة بالبلطجة والرعب، والبنية التحتية المدمرة، والمقدرات التي وضع المحتلون يدهم عليها.. كل ذلك ليس من صنع مَن وصّفهم رأس النظام بفاقدي العقيدة والاحترام والانتماء والقيم؛ إنه تحديداً صناعة المنفصم والعصابة المحيطة به حصراً؛ والسوريون عامة يعرفون ذلك.

تفاقم الانفصام أكثر في الخطاب عند الحديث عن طرق وآليات مواجهة ومعالجة الكارثة الاقتصادية، فكان تكرار أسطوانة "الشفافية، وتحديث القوانين، ومكافحة الفساد، والإدارة السليمة، وتوسيع الاستثمار، والاعتماد على الطاقة البديلة- وهذه إضافة جديدة وليست مكررة". رغم أن هذه الطروحات مكرورة إلا أنها تكشف مدى الانفصام عن واقع يعرفه كل السوريين. فالشفافية تقتضي الاستفسار عن مصير أموال النفط السوري خلال أربعة عقود، وعن القوانين التي تُخرق متى شاء الحاكم بأمره، وعن الفساد الذي لا تقوم منظومة الاستبداد إن هو غاب، وعن الاستثمار المُحتَكر في مخالب العصابة الحاكمة. أما "الطاقة البديلة" فهي كشف حقيقي للانفصام وفضح بأن موارد سوريا ومقدراتها وثروتها النفطية لم تعد تحت "السيادة" المزعومة بل بيد مَن يحمي منظومة الاستبداد.

اكتمل الانفصام عن الواقع، رغم محاولة تغليفه بـ "سولوفان" أكاديمي، بالحديث عن العروبة والمقاومة وفلسطين والجولان.

العروبة ليست مجرد حالة عاطفية بل في الجينات والخصائص لأهل هذه المنطقة، وما هي عنصرية، بل حالة جامعة؛ إلا أن ما شهده السوريون من منظومة الاستبداد هو الكفر بها والتحالف مع أعدائها الفرس لقتل شعب عربي سوري، واحتقار للعرب لأنهم تعاطفوا مع مأساة إخوتهم العرب السوريين. بالنسبة للمقاومة، فَهِمَ السوريون أن المقاومة فعل شريف يرفع الظلم والاستبداد والاحتلال الصهيوني للأرض العربية واغتصابه للحقوق؛ ولكن ما شهدوه خلال العقد الماضي هو قيام أسياد تلك المقاومة بتدمير سوريا وقتل شعبها وتشريده واعتقاله ومقاومة حريته. أما فلسطين، فلم يكن السوريون يعلمون أن الطريق إلى القدس عاصمتها يمر بالمدن والبلدات والأرواح السورية التي زهقها "سيّد المقاومة" ومشغلوه في طهران. بخصوص الجولان، ينفضح ويتعرى مَن "احتفظ بحق الرد" عند أي عدوان إسرائيلي على سوريا، ومَن قيل إنه تنازل عنها أساساً ليكون المتحكم بمصير سوريا.

ربما طبيعي بالنسبة له أن يحنث بقسم؛ لكن ما هو غير طبيعي هو ذلك القطيع الذي يصَفَّق

أخيراً، ولن يكون آخراً، وفي "القسم" ذاته، عندما يقسم "رئيس" بمَن لا يعرفه؛ وعندما يعبّر عن احترام دستور يخرقه، وقوانين يستبيحها، ونظام جمهوري ورثه؛ وعندما يعد برعاية مصالح شعب، يذبحه ويعتقله ويذلّه؛ وعندما يتبجح بصيانة حرية هذا الشعب، ويدمّره إن خرج مطالباً بها؛ وعندما يقسم على سيادة البلد واستقلاله، وسوريا مستباحة بالاحتلال- وعندما يتحدث عن العدالة، والسوريون لا يعيشون إلا الظلم والقهر والجور؛ وعندما يقفز في قسمه إلى الأمة العربية مرة واحدة فأي قسم يقسم، وأي انفصام يعيشه ويمثله؟! ربما طبيعي بالنسبة له أن يحنث بقسم؛ لكن ما هو غير طبيعي هو ذلك القطيع الذي يصَفّق. كن أيها "المُقسم" منفصماً كما تشاء؛ فلست قادراً على غير ذلك؛ ولكنك إذا استطعت مواجهة ذلك القطيع ببهلوانية، ستجد نفسك سريعاً بمواجهة المتدخلين بالقضية السورية والمتمترسين عند القرار الدولي والحل السياسي بناء على قرار دولي وانتقال سياسي. عندها ستكون الحقيقة.