خصخصة التعليم في الشمال السوري.. ضره أكبر من نفعه

2022.09.22 | 06:46 دمشق

خصخصة التعليم في الشمال السوري.. ضره أكبر من نفعه
+A
حجم الخط
-A

مع انطلاق العام الدراسي الجديد 2022-2023 في المناطق المحررة، تنتشر على نحو واسع الإعلانات التي تدعو الطلاب للتسجيل في المدارس والمعاهد الخاصة. رغم القيمة التي يمكن أن يضيفها التعليم الخاص مادياً ومعنوياً إلى شريحة محدودة من الطلاب والمعلمين، إلا أنّ آثاره السلبية القريبة والبعيدة قد تجعل هذه القيمة محدودة الأثر، بل ربما تكون مدمِّرةً على المدى البعيد حيث ستطول الشريحة الأكبر من مجتمعنا.

مع انتقال السلطة في مناطق شاسعة من سوريا من يد النظام الحاكم إلى يد المعارضة، ظهرت مشكلة تمويل ملف التعليم كتحدٍ عصيٍّ على الحل. فرغم امتلاك المؤسسات التعليمية من وزارات ومديريات للكوادر الخبيرة، إلا أنها لا تمتلك الموارد المالية التي تمكنها من تمويل إدارة العملية التعليمية بكل جوانبها. فالعملية التعليمية لا تقتصر على توفير رواتب المعلمين التي لم تستطع هذه المؤسسات توفيرها، بل تشمل توفير الكتاب المدرسي والأثاث المدرسي (كمواد التدفئة والمقاعد والسبورات وأقلام الكتابة والسجلات المدرسية والمياه..). إضافةً إلى عدم امتلاكها الموارد اللازمة، كان لابد لهذه المؤسسات (بالتعاون مع المجالس المحلية) من مواجهة تحدي إعادة ترميم المدارس أو إيجاد بديل عنها بعد تعرضها لغارات طائرات النظام وروسيا.

استمر المعلمون بالعمل بشكل تطوعي في العام الدراسي 2014 مع غياب أي جهة تقدم الدعم المالي لمؤسسات المعارضة

في حين كانت النسبة الأكبر من المدارس لاتزال تتبع لنظام الأسد وتتلقى الرواتب منه بشكل اعتيادي، لجأ عدد كبير من المعلمين الذين قام النظام بقطع رواتبهم إلى التعليم في مدارس المعارضة بشكل تطوعي. ففي العام الدراسي 2013 أجرت المكاتب التعليمية في المجالس المحلية أول امتحانات عامة لطلاب التاسع والبكلوريا بالتعاون مع -الهيئة الوطنية للتعليم في الائتلاف الوطني- حيث لم تكن الوزارة أو المديريات قد تشكلت بعد. واستمر المعلمون بالعمل بشكل تطوعي في العام الدراسي 2014 مع غياب أي جهة تقدم الدعم المالي لمؤسسات المعارضة. لكن أول الغيث كانت منحة مالية سعودية بقيمة 17 مليون دولار مقدمة عبر برنامج "لأتعلم" ونفذته وحدة تنسيق الدعم بالتعاون مع وزارة التربية والمديريات التابعة لها. غير أن الاستقرار المالي في دعم التعليم لم يبدأ إلا في عام 2016 مع إطلاق مشروع "إدارة" من منظمة "كيمونكس" الذي تموله وزارة التنمية الخارجية البريطانية DFID. تضمن هذا المشروع تقديم 100$ (أصبحت 120$ لاحقاً) كمنحة شهرية تشمل 12 ألف معلم في حلب وإدلب وريف دمشق إضافة للمصاريف التشغيلية للمديريات والمدارس، حسبما صرّح وزير التربية السابق د. عماد برق لجريدة عنب بلدي في نيسان 2016. وبذلك استطاعت مديريات التربية السيطرة بشكل كامل على الملف التعليمي بشكل تدريجي وإنهاء أي تبعية لنظام الأسد.

ما لبث هذا الاستقرار المالي أن عاد للتدهور قبيل انتهاء العام الدراسي 2019 مع تجميد الاتحاد الأوروبي لحصته في صندوق دعم التعليم والتي تبلغ 60%. على إثر ذلك سارعت (DFID) التي تقوم "مناهل" بتنفيذ مشروعها لخفض تمويل التعليم إلى الثلث ليقتصر الدعم على الحلقة الأولى (من الصف الأول إلى الرابع) في المدارس التي تنفذ برامج الحماية وجودة التعليم. وبذلك أصبحت نسبة 60% من المعلمين البالغ عددهم 20 ألف معلم في مديريات التربية بلا رواتب وسط تجاهل المنظمات الدولية وغير الحكومية لمناشدات المسؤولين التعليميين للتدخل وإنقاذ العملية التعليمية من الانهيار.

فتح هذا الوضع الباب واسعاً لدخول التعليم الخاص كرديف للتعليم الرسمي والذي قد يتحول أيضاً إلى تعليم خاص فيما لو أوقفت باقي المنظمات دعمها لبعض المدارس. وقد أثار انتشار التعليم الخاص جدلاً كبيراً بين أوساط التربويين والأهالي. فرغم بعض الفوائد التي يمكن أن يحققها، إلا أن "ضره أكبر من نفعه" في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة في مناطق المعارضة. فمن ناحية، سيوفر التعليم الخاص راتباً منتظماً للمعلمين مما سينعكس بشكل إيجابي على التزامهم بالدوام وتفانيهم في العطاء وما سيترتب على ذلك من استقرار للعملية التعليمية التي تعتمد على المعلم الذي أنهكه العمل التطوعي لفترة طويلة.  كما يمكن أن يشكل ذلك حافزاً لعودة أصحاب الاختصاص لمزاولة مهنة التعليم بعد أن هجروها للبحث عن عمل في مجالات أخرى لسد رمق عائلاتهم. من ناحية أخرى، لابد أن يعود التزام المعلمين واستقرار العملية التعليمية على الطلاب بآثار جيدة حيث تستطيع المدارس والمعاهد الخاصة انتقاء المدرسين من أصحاب الكفاءات. ومن المرجح أن يعمل هؤلاء المدرسون بجد في أجواء من التنافس البنّاء لرفع سوية طلابهم للحصول على معدلات عالية مما سيسهم في تحسن نسبي في جودة التعليم.

الانقسام الطبقي والتسرب

على النقيض من ذلك، فإن السلبيات التي يمكن أن ينطوي عليها الانتقال إلى التعليم الخاص قد تطغى على الإيجابيات التي يمكن أن يحققها هذا الانتقال. من سلبيات التعليم الخاص أن يصبح التعليم حِكْراً على العوائل التي تستطيع دفع الأقساط المدرسية لأبنائها مع ما يعنيه ذلك من انحصار التعليم في العائلات الميسورة وحرمانه للعائلات الفقيرة. سيشكل التفاوت الطبقي الناتج عن ذلك إساءةً كبيرةً لمبادئ الثورة السورية التي نادت بالمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع أفراد المجتمع السوري. أمّا أن تستطيع حفنة فقط من الأغنياء الجدد تعليم أبنائها فيما يعجز السواد الأعظم من الأهالي عن تحقيق هذه ’الأمنية‘ لأبناهم، فإن ذلك ينذر بانقسام حاد في المجتمع وبحدوث ما لا يُحمَد عُقباه.

الغالبية الساحقة من العائلات السورية لن تكون قادرة على دفع أقساط أبنائها. ومهما كانت الأقساط المدرسية منخفضة، فإن تأمينها سيشكل تحدياً كبيراً لعوائل لا تكاد تملك قوت يومها

إلا أن أخطر سلبيات خصخصة التعليم يكمن في إمكانية زيادة نسب تسرب الطلاب لعدم القدرة على دفع أقساط المدارس. ورد في تغريدةٍ بتاريخ 22 حزيران 2022 لKent Page ، رئيس لجنة المناصرة في مبادرة (التعليم لا ينتظر) في اليونيسيف، أن 90% من مجتمعنا يقبع تحت خط الفقر مما يعني أن الغالبية الساحقة من العائلات السورية لن تكون قادرة على دفع أقساط أبنائها. ومهما كانت الأقساط المدرسية منخفضة، فإن تأمينها سيشكل تحدياً كبيراً لعوائل لا تكاد تملك قوت يومها، لا سيما إذا كان في العائلة نفسها أكثر من طالب واحد. فإذا كانت الأسباب الرئيسية وراء التسرب المدرسي سابقاً تنحصر في الاستعانة بالأطفال لإعالة أُسرهم أو بسبب المخاوف الأمنية، فإن خصخصة التعليم ستوفر سبباً منطقياً للتسرب يتجلى بعدم امتلاك الأهالي للمال الكافي لتعليم أبنائهم.

إن انضمام أعداد كبيرة من الطلاب الحاليين إلى قائمة ضخمة من الطلاب المتسربين سابقاً ينذر بتفشي الجهل والتخلف في المجتمع وما يترتب عليهما من ظواهر سيئة. ففي حين يبلغ عدد الطلاب المتسربين حاليا 2.4 مليون في عموم سوريا كما ذكر  Kent Page في نفس التغريدة، فإن نحو مليون طالب من هؤلاء هم في مناطق المعارضة. حيث إن التسرب يطول ما بين 60% إلى 70% من الأطفال في سن المدرسة في شمال غربي سوريا، حسب ما نقل موقع Syria-press عن مركز جسور في حزيران 2022. فيما تنخفض هذه النسبة إلى نحو 40% في مدارس منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون التي تشرف عليها مديريات التربية التركية وذلك بسبب الاستقرار النسبي للعملية التعليمية وانتظام دفع رواتب المعلمين.

إن خطورة تدهور التعليم تتطلب من كل الفعاليات التربوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها عقد ورش عمل تتمخض عنها حلول واقعية تضمن لمعلمينا الحصول على العيش الكريم وتضمن لطلابنا حقهم في الحصول على التعليم من دون تمييز. فالتعليم حاجة أساسية للفرد والمجتمع لا تقل عن الحاجة للماء والغذاء.