حين يعترف نظام الأسد بعمالته

2022.07.27 | 07:11 دمشق

حين يعترف نظام الأسد بعمالته
+A
حجم الخط
-A

في إطار الاستعدادات للعملية العسكرية التركية المرتقبة في الشمال السوري، يجند النظام كل أبواقه ووسائل إعلامه المحلية و"الحليفة" ليس للحديث عن العملية ذاتها، أو عن خطورتها وتأثيرها على السيادة السورية وتبعاتها المستقبلية، وإنما لتخوين السوريين ممن شاركوا في الثورة عليه من خلال تكثيف الحديث عن "العملاء".

بداية سنكتشف أن كل أنواع الاحتلالات وكل الانتهاكات للسيادة الوطنية وكل التهديدات الإسرائيلية والتركية لا تستوقف النظام ولا تأخذ حيزاً من تفكيره، إلا في إطار التدليل على عمالة خصومه، فما يهم النظام بالدرجة الأولى هو تكثيف الحديث عن الثورة بوصفها الأداة التي دمرت سوريا واستجلبت الأجنبي.

ويبدو أن تشويه الثورة وتخوين كل من شارك فيها لا يزال الشاغل الأساسي للنظام الذي لا يزال يتعامل مع كل من طالب بإسقاطه على أنه العدو والخصم الأول والأخير رغم كل الأعداء المفترضين ورغم المؤامرة الكونية ورغم اعتداءات الدول المباشرة ولا سيما إسرائيل على الأراضي السورية.

وعلى الرغم من انتصاراته العسكرية المزعومة، فما يزال احتمال الإطاحة بالأسد قائماً، ولهذا يكرس النظام كل دفاعاته العسكرية والإعلامية لمجابهة هذا الخطر ومحاولة القضاء عليه تماماً، وعندها فقط يمكن للأبواق أن تسكت وأن تتراجع الآلة العسكرية تماماً بصرف النظر عن المآل المتوقع لسوريا، فكل ما حدث من تحولات كبرى تهدد سوريا الأرض والشعب والممتلكات والثروات لا يشغل بال النظام، الثورة وحدها هي من هدد القصر الجمهوري وشخص الرئيس، ولهذا فإن مفهوم العداء لسوريا يحصره النظام بأي خطر محتمل على رئيسه وليس بالمخاطر الكبرى التي تهدد مصير سوريا.

ما يهم النظام هو التأكيد على أن معارضته كانت الخطأ التراجيدي الذي أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه، وفتحت شهية الدول الإمبريالية كأميركا وأوروبا، وأصحاب الأحلام التوسعية الإمبراطورية كتركيا، لسرقة السيادة السورية واقتطاع أجزاء من البلد الجريح لتضمها إلى ممتلكاتها، وبالتالي فإن تصفية المعارضة والمعارضين هي الهدف الأعلى..

وكما فعل النظام عندما حمل الثورة مسؤولية الدمار الذي طال معظم المدن السورية، فهو يحملها أيضاً مسؤولية التدخل الخارجي.

لا يمكن للنظام أن ينكر أنه كان سباقاً للاستعانة بالأجنبي، ليس فقط من خلال طلب دعم سياسي أو مادي أو عسكري غير مباشر، بل من خلال التدخل العسكري المباشر والمتدرج

هنا لا بد من ملاحظة أن النظام لا يرى حتى النصف الفارغ من كأس الحقيقة، -كما يفعل دائماً- فهو يقوم بتحليل المقدمات بشكل منطقي وواع بما تتطلبه الحالة الوطنية، ولكن عندما يصل إلى النتائج يكسر مسطرة القياس العقلي والوطني ويلجأ إلى الكذب والتلفيق وتزوير الحقائق الدامغة التي لا مجال لنكرانها، ويستبدلها بحقائقه التي يفرضها بالقوة..

لا يمكن للنظام أن ينكر أنه كان سباقاً للاستعانة بالأجنبي، ليس فقط من خلال طلب دعم سياسي أو مادي أو عسكري غير مباشر، بل من خلال التدخل العسكري المباشر والمتدرج، بدأ بحزب الله منذ بداية الثورة، والذي وضع كامل ثقله لقتال الثوار وقتل المواطنين السوريين الخارجين على النظام، ومن ثم التدخل الإيراني المباشر أيضاً بكل ما يملكه الحرس الثوري من قدرات، بالإضافة إلى عشرات الميليشيات التي جندها طائفياً لذبح السوريين، وأخيراً جاء التدخل الروسي بأسطول طيرانه العسكري وبأسلوب الأرض المحروقة ليحقق ما عجز النظام وحزب الله وإيران والميليشيات معاً على تحقيقه.

كل ذلك لا يراه النظام استعانة بالأجنبي، لا يراه خيانة وعمالة، بل يرى العميل هو من لم يجد ملاذاً إلا تركيا التي لم تقدم أصلاً دعماً حقيقياً على الأرض إلا بما يتناسب مع مصالحها، لم تقاتل تركيا ضد النظام كما فعل حزب الله وإيران روسيا، ولم تضرب مناطق الموالاة على سبيل المثال، وبالتالي لا يمكن اعتبار التدخل التركي تدخلاً بالمقارنة مع تدخلات الدول التي جلبها النظام، ومع ذلك يصر الأخير على التعامل مع تركيا على أنها دولة احتلال ومع روسيا وإيران على أنهما حليفان وداعمان ومنقذان لسوريا، وبالتالي فهو يحصر حق التحالف بنفسه، ويرفض حق الآخرين بالتحالف مع دولة أخرى رغم أن الفارق كبير بين شكلي التحالف.

يفرق النظام في هذا السياق بين التدخل الشرعي، أي ذلك الذي كان بطلب من الحكومة "الشرعية"، والتدخل غير الشرعي الذي جاء بطلب من المعارضة، وهو أمر يدين النظام بحد ذاته، من حيث احتكاره الشرعية بالقوة في الوقت الذي فقد فيه الشرعية وتحول إلى ميليشيا أكثر تطرفاً وإرهاباً وخيانة للسوريين من كل الميليشيات الأخرى، لأنه احتكر سلاح الدولة، ودعمَ الدول الحليفة، واحتكر الإعلام والاقتصاد ووضع المواطنين رهينة تحت تهديد سلاحه.

يراكم النظام في كل أزمة تعترضه دلائل إدانته بنفسه، ولكنه يحاول أن يستخدم أدلة إدانته ضد خصومه، وما يروجه اليوم عن العملية العسكرية التركية المرتقبة ما هو إلا جزء من تخريجاته الروتينية التي تهدف للتملص من الاستحقاق الأساسي في الدفاع عن السيادة وتبرير قتل السوريين بذريعة العمالة.

يحدد إعلام النظام هوية العملاء: فالأكراد عملاء لأميركا، والجيش الوطني عميل لتركيا، وتحرير الشام فصيل عميل لإسرائيل، ولقطر وللسعودية، وهؤلاء جميعاً عملاء لأميركا وإسرائيل، وإسرائيل عميلة الإمبريالية العالمية، وعندما يريد أن يرد على الدول لا يفعل شيئاً إلا بقصف المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرته تحت ذريعة ضرب العملاء، لأنه يحدد مفهوم العمالة بكل من عارضه من السوريين، أما الدول التي لم تتحالف معه ولم تؤازره في قتل السوريين فهي دول إمبريالية متآمرة، متخلفة حاقدة ودكتاتورية ولا داعي لمواجهتها..

اللافت في هذا السياق أن النظام يعتمد في تخوين خصومه على ذات الأسس التي يبرئ نفسه من خلالها غير أنه يحول عمالته إلى عمل وطني بحت وفعل بطولي، ومن أجل ذلك فما عليه إلا أن يلعب بالمصطلحات فيحول التبعية والعمالة إلى صداقة، والتعامل مع جهات خارجية إلى تحالف.

اللافت في هذا السياق أن النظام يعتمد في تخوين خصومه على ذات الأسس التي يبرئ نفسه من خلالها غير أنه يحول عمالته إلى عمل وطني بحت وفعل بطولي

كما يميع النظام مفهوم الدولة، ومفهوم الشرعية ولا يطبق على نفسه ذات المعايير التي يطبقها على خصومه، ولا على الدول الأخرى التي تحتاج إلى تحالفات حقيقية بحكم تعرضها للحرب، ففي أوكرانيا يتدخل بوتين دون طلب من الحكومة الشرعية، بل يتدخل بهدف إسقاط الحكومة الشرعية، فتصبح استعانة الحكومة الأوكرانية الشرعية بحلفائها خيانة في عرف النظام، ما يحلله النظام على نفسه يحرمه على غيره، مما يجعله منفلتاً من أي معيار منطقي أو أخلاقي أو وطني أو إنساني..

كل ما تفعله الآلة الإعلامية لنظام الأسد يدل على أن الأخير لا يخاف إلا من السوريين، فالأسد ونظامه يقدمان كل التنازلات للقوى المحلية والإقليمية والدولية، وللميليشيات الأجنبية، ولكنهما لا يقدمان تنازلاً واحداً لسوريا وشعبها وإن تطلب ذلك حرق سوريا بما فيها ومن فيها.

كل من يعمل لصالح أجندة دولة أخرى هو بالتأكيد عميل ومرتزق، وبهذا المقياس يبدو النظام الأكثر عمالة وارتزاقاً وإجراماً من بين كل الميليشيات المنتشرة على الأرض السورية، وخطابه الإعلامي يدينه أولاً ويعد بمنزلة الاعتراف غير المقصود بتلك العمالة التي لا يمكن إنكارها.