"حين يزهر الصفصاف إجاصاً"

2019.12.05 | 21:18 دمشق

580_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لن تشهد رومانيا أي إصلاح قبل أن يثمر الصفصاف إجاصاً"، جملة شهيرة يعرفها أغلب مناهضي الاستبداد ويتندرون بثورة الصفصاف التي اندلعت ضد الزعيم الروماني "تشاوشيسكو"، التي تعني لكثيرين أن إرادة الشعوب قادرة على قهر المستحيل واللا ممكن.

خاطب بها الزعيم الدكتاتور جموع الشعب الثائر ضده متحدياً إياهم بعدم التغيير، وأصبحت فيما بعد من أكثر العبارات شهرة في ثورة الصفصاف ومضرب مثل لقمع الدكتاتوريات لإرادات الشعوب.

الأمر لم يدم طويلاً بعدها فقد علق له الثوار إجاصاً في أشجار الصفصاف فعلاً، ووشى بمكانه

عارض كثيرون تطبيق حكم الإعدام الفوري ضده أو ضد أي دكتاتور قمعي وارتفعت الأصوات منددة بوحشية الثائرين

المزارعون، إذ اختبأ وزوجته بالقرب منهم وأعدمهم المحتجون على الفور رمياً بالرصاص حين عثر عليهما.

كان هذا السلوك وغيره من سلوكيات اعتبرتها الشعوب تطبيقاً للعدالة -إذا صح التعبير-، محط انتقاد حتى يومنا هذا، فقد عارض كثيرون تطبيق حكم الإعدام الفوري ضده أو ضد أي دكتاتور قمعي وارتفعت الأصوات منددة بوحشية الثائرين، كان آخرها في قضية مقتل الزعيم الليبي القذافي على سبيل المثال وطالبوا بضرورة إخضاع الزعماء المخلوعين إلى محاكمة عادلة.

في ميثاق تأسيس المحكمة الجنائية الدولية التي أسست في سنة  2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، لم يكن لها أن تقوم بدورها القضائي ما لم تبدِ المحاكم الوطنية رغبتها أو كانت غير قادرة على التحقيق أو الادعاء ضد تلك القضايا.

فهي بذلك تمثل المآل الأخير، فيما تتجه المسؤولية الأولية إلى الدول نفسها، وهذا أول ما يؤخذ على عدالة تلك المحكمة التي تجعل من الدول والأنظمة التي يراد الاختصام ضدها حكماً في وقائع يكون الحاكم المستبد في نظام الدولة هو الجاني فيها.

فضلاً عن أن قدرتها على المحاكمة تقتصر على النظر في الجرائم المرتكبة بعد تاريخ إنشائها، في الأول من يوليو/تموز 2002 عندما دخل قانون روما للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ، وهذا مأخذ آخر يشكك في جدوى الاحتكام لها من عدمه في حالات جرائم الحرب التي يرتكبها الزعماء ضد شعوبهم في الفترة التي سبقت إنشاء المحكمة أي منذ ستينيات القرن الماضي الفترة التي شهدت صعود أكثر من حاكم محسوب على نهج الاستبداد واعتلى منصة الحكم في بلاده.

تختص المحكمة نظرياً بالنظر في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان والجرائم ضد الإنسانية مثلما هو معروف، ويحد صلاحياتها اختصاصها الإقليمي الذي حددته مفاوضات نظام روما، إذ حاولت كثير من الدول جعل المحكمة ذات سلطة عالمية، لكن هذا الاقتراح فشل بسبب معارضة دول عظمى، الأمر الذي جعل الدول ذات الشأن توقع على تفاهم يقضي بممارسة المحكمة لسلطتها فقط ضمن الظروف المحدودة الآتية:

  • إذا كان المتهم بارتكاب الجرم مواطناً لإحدى الدول الأعضاء (أو إذا قبلت دولة المتهم بمحاكمته).
  • إذا وقع الجرم المزعوم في أراضي دولة عضو في المحكمة (أو إذا سمحت الدولة التي وقع الجرم على أراضيها للمحكمة بالنظر في القضية).
  • أو إذا أحيلت القضية إلى المحكمة من مجلس الأمن.

علاوة على وجود تعقيدات كثيرة ومختلفة من أجل تحريك دعوى ضد أحد مرتكبي جرائم الحرب، أهمها أن تحريك الدعوى يحتاج إلى تقديم طلب للمحكمة موقع من 100000 شخص ممن وقعت عليهم جرائم عنصريه أو إبادة جماعية أو اضطهاد عرقي أو مذهبي أو جرائم مشابهة.

في السنة الأخيرة أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، بإجماع قضاتها، حكماً بالسجن لمدة 30 عاماً على "بوسكو نتاغاندا"، الجنرال السابق في القوات الوطنية لتحرير الكونغو، بتهمة القتل الجماعي وفظائع أخرى في جمهورية الكونغو الديمقراطية.

وذلك بسبب ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في هجمات على قرى في مقاطعة "إيتوري" في جمهورية الكونغو الديمقراطية في عامي 2002 و 2003.

ما يعني أن الجرائم التي ارتكبها أخذت من الوقت قرابة عقدٍ ونصف قبل أن تصل إلى ملفات القضاء الدولي لينظر بها، فإذا كنت ممن ينتظرون تحقيق عدالة العالم المزعومة عليك أن تنتظر إلى ما شاء الله حتى تنتصر لقضيتك أو للشهداء الذي قضوا في سبيل تحقيقها، وربما لن يتحقق ذلك في حياتك أو قد يعمر ذلك المجرم عمراً أطول من عمرك، وربما قد يأخذه الطريق ليصبح لاجئاً سياسياً في إحدى الدول التي تمنحه حق اللجوء وتحميه من شرورك الانتقامية!!

أي صبر من الممكن أن يريح قلوب الأمهات الثكالى إذن، أولئك اللاتي حرمهن حاكم مستبد من فلذات أكبداهن بسبب أطماعه في الحكم وتوحشه للاستيلاء على بلاد بأكملها!!

أو كيف لعائلة غيب الاعتقال ابنها أو بنتها من دون أن تعرف له مصيراً

ولماذا سيختار الثائر المكلوم الذي سلبت منه حياته على مرأى من العالم أن ينتظر أحكاماً من أجهزة دولية، ما زالت لا تعطيه الحق بالثورة

في فترة حكم الأسد الأب مثلاً، أن تنتظر أحكاماً عادلة إذا كانت الجهة المختصة بإصدار الأحكام العادلة -إذا صح التعبير- قد لا تنظر في مثل هذه الادعاءات لأنها غير ذات اختصاص، كونها حصلت خارج الإطار الزماني لاختصاصها.

ولماذا سيختار الثائر المكلوم الذي سلبت منه حياته على مرأى من العالم أن ينتظر أحكاماً من أجهزة دولية، ما زالت لا تعطيه الحق بالثورة وتطلق على ثورته أسماء تدينه مثلما تدين السفاح على أحسن تقدير.

كل الجرائم التي ترتكب الآن تحدث على مرأى من العالم وأجهزته الإعلامية قد تبقى مجرد خبر عادي، قد يمر مرور الكرام من دون أن يحرك العالم ساكناً لتغيير الوضع الإنساني المزري الذي بتنا نرزح تحته جميعاً.

كيف ننتظر أن ينظر مهجرو الروهينغا في ميانمار أو المضطهدون من الأقلية الإيغورية في الصين مثلاً بعين الرضا والقناعة إلى عدالة مفصلة على قياس عالم لا يعبأ بآلامهم ولا يملك قدرة على لا تغيير أوضاعهم وربما لن يمنحهم الحياة التي يستحقونها، على المدى المنظور.

ربما ينبغي أن نعيد طرح الأسئلة بشكل معاكس ونضع أنفسنا في موضع المظلومين كي نتفهم مبرراتهم وأسبابهم قبل أن نكيل لهم الاتهامات بأنهم غوغائيون وغريزيون في حال انتقموا لمظلوميتهم، أو أن نقترح حلولاً ناجعة بدلاً من الاكتفاء عن الحديث عن المشكلة فحسب، لأن العالم الذي يشاهد -بكل قواه العقلية- ما يحدث في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن وإيران من دون أن يقوى على تحسين تلك الأوضاع  ومن دون أن يعبأ لآلام تلك الشعوب، لا يحق له أن ينتظر من تلك الشعوب تفهماً وتقبلاً لعدالته التي فصلها على مقاس الأنظمة القمعية التي صدَّرها لنا.