حين قرر المترجم أن يخون

2018.11.05 | 02:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان خطاباً باهراً ذلك الذي قرأه علينا صالح علماني مترجَماً ذات صباح. وكان وحده كافياً لحفر الاسم ذي الجرس السهل في الذاكرة، «أونامونو»؛ الفيلسوف والشاعر والروائي الإسباني، أستاذ اللغة الإغريقية الذي صار رئيس جامعة سلمنقة العريقة قبل أن يبلغ الأربعين. وفي خريف 1936 كان في منصبه هذا، عجوزاً، عندما أقيم في الجامعة احتفال رسمي بمناسبة «عيد العِرق»، أحد معالم الفاشية الصاعدة بقوة في البلاد. وكان أبرز حاضريه الجنرال ميلان أستراي، أحد أشد الرجال دموية بين انقلابيّي الجنرال فرانكو، ومؤسس الكتائب المسلحة، وكان قد فقد بعض أعضاء جسده في المعارك.

            لم يكن مقرراً أن يتكلم أونامونو، لكن هيستيريا الكراهية الجماعية التي عمّت المدرج المحشو بالمقاتلين الشبان المتحمسين، دفعت المنفي السابق إلى المنصة ليقول، بتصرف:

            إنكم تنتظرون كلمتي. فأنتم تعرفونني جيداً وتعرفون أنني غير قادر على التزام الصمت. خلال ثلاثة وسبعين عاماً من الحياة لم أتعلم الصمت، واليوم لا أريد تعلمه. فهو يعادل الكذب أحياناً، وقد يُفسَّر على أنه رضا. هذا معبدٌ للفكر، وأنا كاهنه الأكبر. وأنتم تدنسون حرمته. سمعت الآن صرخة «يحيا الموت» الموجّهة لتحية الجنرال أستري، كدليل على أنه رمزٌ للموت. الجنرال أستري معاق، مشوه حرب، وهكذا كانت حال سيرفانتس. يوجد اليوم معاقون كثيرون في إسبانيا، وسيكون هناك المزيد منهم

الانتصار لا يعني الإقناع. لا بد من الإقناع قبل كل شيء، ولا يمكن للحقد أن يقنع أحداً. ويبدو لي أنه من العبث الطلب منكم أن تفكروا بمصير إسبانيا

عما قريب ما لم يتداركنا الله. وإنني أتألم لأن الجنرال قد يضع قواعد سيكولوجية الجماهير؛ فمعاق دون عظمة سيرفانتس الروحية وتفوقه الفكري، يشعر عادة بالعزاء وهو يرى تزايد أعداد المعاقين من حوله. يريد الجنرال إسبانيا الجديدة على شاكلته؛ ولذلك يريدها معاقة. ستنتصرون لكنكم لن تُقنعوا. ستنتصرون لأنكم تملكون كتلة هائلة من القوة الغاشمة، لكنكم لن تتمكنوا من الإقناع لأنه يتطلب ما لا تملكون؛ الحجة، ولكي تُقبل حجتكم تحتاجون إلى شيء تفتقدونه: العقل والحق في القتال. الانتصار لا يعني الإقناع. لا بد من الإقناع قبل كل شيء، ولا يمكن للحقد أن يقنع أحداً. ويبدو لي أنه من العبث الطلب منكم أن تفكروا بمصير إسبانيا.

أنقذت زوجة فرانكو، التي كانت حاضرة الحفل، الأكاديمي من ردة فعل حمقاء بدا العناصر الهائجون على وشك ارتكابها، وصحبته إلى الخارج. وبعد أيام اجتمع مجلس الجامعة وقرر عزله، ليموت بعد أشهر.

نشر علماني الترجمة في جريدة «قاسيون»، الناطقة باسم أحد أجنحة الشيوعيين السوريين. وبعد أشهر تفرغ لنقل دراسة أونامونو عن رواية سيرفانتس «دون كيخوتة»، الشخصية التي استفاد منها الفيلسوف ليحدد نفسه في «دور المثقف المصمم على لعب دور البطولة»، كما كتب علماني الذي تشاغل بترجمة الكتاب عن اضطراب أحوال دمشق بعد قيام الثورة التي سيتضح موقفه المعادي منها بالتدريج، وصولاً إلى عبارته الشهيرة: «لم يعرف التاريخ منتصراً أرحم من الجيش العربي السوري».

سيكون كتاب أونامونو فأل خير على مترجمه الذي كان يراقب، بتوتر وحنق، توسع رقعة احتجاجات السوريين وانضمام أعداد متزايدة إلى المؤامرة المدعومة من الخارج على نظام الممانعة الذي يحكم البلد التي ولد فيها إثر مغادرة عائلته موطنها الأصلي فلسطين. إذ سيحصل الكتاب على جائزة اللائحة القصيرة للترجمة في جائزة الشيخ زايد للكتاب في الإمارات عام 2012، التي فتحت الباب لفوز علماني بجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة في السعودية عام 2015، ثم جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في قطر 2016.

صحيح أن هذه الدول من أبرز الأطراف العربية المشاركة في المؤامرة الكونية، على اختلاف المراحل والدرجات، غير أنه ليس

الجوائز الثقافية لا تحط على المؤلفين أو المترجمين هكذا فجأة وهم غافلون، بل تسبقها ترشيحات وتزكيات وتوثيق، ليتفادى منظموها إحراجاً قد يقع نتيجة رفض أحد الفائزين تسلمها بسبب موقف سياسي أو أخلاقي أو ما شابه

غبياً ليحارب طواحين الهواء!!! إن كان لا بد من النزال فأهلاً به، لكن ضد جائزة قيل إن وزارة ثقافة السلطة الفلسطينية في رام الله ستنظمها. هناك سيستأسد ويكتب بشراسة مترفعة: «لا أريد جائزتكم، وسأبصق عليها إذا منحتموني إياها. لست ذبابة مثلكم تحط على عسل».

ما لا يعرفه الكثيرون أن الجوائز الثقافية لا تحط على المؤلفين أو المترجمين هكذا فجأة وهم غافلون، بل تسبقها ترشيحات وتزكيات وتوثيق، ليتفادى منظموها إحراجاً قد يقع نتيجة رفض أحد الفائزين تسلمها بسبب موقف سياسي أو أخلاقي أو ما شابه، مما يضر القيمة المعنوية للجائزة والجهة الراعية. وبإمكان أي كاتب أن يرفض ترشيحه لجائزة يتخذ منها موقفاً، خلال مراحل الإعداد والمراسلات وتصفية الأسماء. لكن لأكثرية المثقفين مكاييل عديدة لا اثنان فحسب. وحينما يتطلب الأمر بوسعهم «فصل الثقافة عن السياسة» واستلام جوائز من أنظمة يشتمونها في النهار لأنها تشغّل «المرتزقة» لمحاربة بلدهم وإسقاط نظامه... وقتال جنراله المقدس.

فما يحوزونه من جوائز استحقاق طبيعي لحصيلة جهدهم سنوات، وهو ما صرّح به علماني. واللجان التي قيّمت أعمالهم لم تنظر إلى مواقفهم السياسية، وهو ما لم تتعلمه قلوبهم المسممة بالحقد وعقولهم الحولاء الضيقة وأخلاقهم المفصّلة حسب الطلب. ففي الوقت الذي كان فيه المترجم يتنقل بين الرياض والدوحة كان عليه أن يقرأ عشرات الروايات المرشحة لنيل جائزة البوكر العربية، التي اختير لعضوية لجنة تحكيمها لدورة 2017. واستطاع، وفق تسريبات صحفية متضافرة، إقناع بقية الأعضاء، الممانعين أو غير المهتمين، باستبعاد الأعمال السورية التي غلب عليها تأييد الثورة!

كلمات مفتاحية