حياتنا بين المذكرات واليوميات

2022.11.11 | 07:36 دمشق

حياتنا بين المذكرات واليوميات
+A
حجم الخط
-A

بالأمس كنت أقرأ مذكرات لصديق عزيز، يوثق فيها بطريقة سردية رشيقة وعفوية وقائع ما يقارب خمسين سنة أمضاها في أروقة الثقافة والسياسة، والعمل السري والمعتقلات والمنافي، يكاد يكون هذا النمط من الحياة السائلة والقلقة والمثيرة نموذجاً نمطياً شائعاً، لدى جيلٍ فريدٍ من المثقفين السوريين، الذين عاشوا في الضفة المعارضة للنظام.

يطل السؤال الملح وبشكلٍ متكرر، كم هو مهم أن نوثق هذه الحكايات ونصنع منها تاريخنا؟ تاريخ الناس البسطاء والعاديين، الناس الذين لم يتسنموا موجة المحسوبيات والوساطات وشراء النفوذ والمكاسب الفردية، الناس الذين ينتظرون نهاية الشهر ليتسلموا راتبهم الذي بالكاد يكفي لسد الرمق وتدبير الأمور بحرص شديد، ليمر هذا الشهر بسلام دون ديون متراكمة، وغالباً هذا لا يحصل.

لم تعد كتابة التاريخ حكراً على السلاطين وفقهائهم ومؤرخيهم، نحن نعيش اليوم في عالم تشيع فيه المعلومة، وتسري عبر الشبكات التي يصعب السيطرة عليها، سريان النار في الهشيم، وما إن يطلق شاب أو فتاة صيحته أو صيحتها هنا أو هناك حتى تضرب في كل الأصقاع وباللحظة ذاتها ضرب الصاعقة في صحراء مترامية الأطراف.

كتابة الناس العاديين والكتابة عنهم وبتراكم تلك الأنماط من الكتابة، تصنع صورة شديدة المقاربة للحقيقة، تلزم لمشاريع التعافي من الكوارث التي تحيق بنا

في عام 1980 فاز فيلم الدراما الأميركي "ناس عاديون" بأربع جوائز أوسكار كما فاز بخمس جوائز "غولدن غلوب"‏ الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتبة جوديث غيست، يتناول قصة عائلة أميركية متوسطة الدخل، بلغت كلفة الفيلم 6 ملايين دولار بينما حقق إيرادات تقارب 55 مليون دولار، هذا النجاح نموذج من تحول الاهتمامات عامةً من الأحداث والشخصيات الكبيرة، من ملوك وأمراء وأثرياء كانوا يملؤون المساحة في أعمال شيكسبير وغيره، إلى الاهتمام بحياة الناس العاديين، لأنهم وحدهم من يعبرون عن طبيعة الحياة المعاشة في فترتهم، وعبر تفاصيل يومياتهم البسيطة والعادية، وقد شهدنا في الآونة الأخيرة شيوع يوميات لجنود وطباخين وموظفين عاديين، ولاحظنا مقدار اهتمام الباحثين الإنثروبولوجيين بها، لما تحمله من أهمية وصدقية عرية عن الغايات، في بسط حياة الناس والمجتمعات في حقبة محددة دون تزييف، وغالبا ما تكتب هذه اليوميات بلغة بسيطة جداً، وربما ركيكة في بنائها اللغوي، الأمر الذي يؤكد عفويتها وبعدها عن مباضع الصنعة.

كتابة الناس العاديين والكتابة عنهم وبتراكم تلك الأنماط من الكتابة، تصنع صورة شديدة المقاربة للحقيقة، تلزم لمشاريع التعافي من الكوارث التي تحيق بنا، وتشكل بتوثيقها التراكمي حجة لإنصاف المظلومين والمضطهدين والضحايا، وتردُّ الاعتبار للمسحوقين والناجين، وتبقي القضايا مفتوحة على احتمالات العدالة، وتقاوم الموت والنسيان والطمس، وتصنع رواية تملك حاضنة واسعة في مواجهة روايات النظام وكذبه الممنهج، وتقدم نموذجاً ممكناً ومشرفاً يحتذى، لمقاومة هؤلاء الناس العاديين لتلك الأوضاع الكارثية السائدة، وكيف يصنعون التاريخ ويصرون على استمرار الحياة بعرقهم المهمل، ولتقول لملايين الرماديين الخائفين، إن صوتهم البسيط يشبه قطرات المطر التي تصنع الطوفان، وليس هناك شيء غير ذي جدوى كما يبررون لأنفسهم، ولو تتبعنا خمسين سنة من قمع النظام، لوجدناه يخشى هذه الأصوات البسيطة والعادية أكثر مما يخشى مواجهة الرصاص والبارود.

ليس خافيا على أحد أن المئات وربما الآلاف من الشباب السوري، عمل على هذا التوثيق بمقدراته الشخصية وربما المحدودة، وربما كان الاتجاه الغالب هو توثيق الانتهاكات والكوارث والضحايا، لما لذلك من أهمية قصوى في مسارات عدالة حقيقية أو انتقالية مأمولة، لكن هذا كله لا يغني عن التأريخ الحياتي المباشر، للأحداث التي تبدو عادية جداً، وغالبا لا يؤبه لها من تغير الأسعار وتوفر فرص العمل وأعداد الضحايا والمتضررين، وكثرة المباني والمساكن المتهدمة، وكلفة إعادة ترميمها أو بنائها من جديد، وشيوع حالات الهجرة الخارجية والداخلية، وشيوع حالات الطلاق والتفكك الأسري والعائلي، وانشطار البنية الاجتماعية من أصغر مكوناتها إلى أكبرها، حول الأحداث التي عصفت بالمجتمع السوري وهشمته، والسبل الجديدة والطارئة في تأمين الموارد الضرورية لاستمرار الحياة، وتأثير التحويلات الخارجية من الأبناء المهاجرين لذويهم في الداخل.

لو رجعنا إلى مخزونات آلاف الشباب السوري، من الفيديوهات والملفات الصوتية والصور الملتقطة، عبر هذه الأجهزة لوقعنا على مئات ملايين المواد الموثقة

ربما كان من المهم ذلك التمييز الواجب بين المذكرات واليوميات، فالمذكرات إنما تستحضر أحداث ووقائع جرت منذ زمن مضى وتستعين على ذلك بمخزون الذاكرة وما يعززها، لذلك هي عرضة لفقد الكثير من التفاصيل، بينما اليوميات هي عمل توثيقي مباشر، يقوم به صاحبه في الزمن المصاحب للحدث أو قريباً له، وقد أتاحت التقانات الحديثة وأبسطها ذلك الهاتف الذكي الذي بات بحوزة كل شخص تقريباً، أتاحت التوثيق الصوتي والبصري، ونشره في وقت وقوع الحدث، الأمر الذي يمنح درجة عليا من المصداقية لهذا الحدث الموثق، ولو رجعنا إلى مخزونات آلاف الشباب السوري، من الفيديوهات والملفات الصوتية والصور الملتقطة، عبر هذه الأجهزة لوقعنا على مئات ملايين المواد الموثقة، التي تحتاج لأيدٍ خبيرة كي ما تنظمها وتنقحها، وتضعها في سياقها الزمني والمكاني، يبقى أن نعلم أن الأجهزة الأمنية المحلية والدولية تعمد بشكل متعاون ومستمر، على حذف وطمس ملايين الوثائق الآنفة الذكر، خدمة لتلك الأنظمة القمعية، وبالتالي علينا ألا نثق بتلك المخازن والمصادر، وأن تكون للموثقين مخازن معلومات بعيدة عن الاختراق والعبث، كي لا يقتلنا الطغاة مرتين.