icon
التغطية الحية

حياة تنتهي بصمت.. معدل الانتحار بـ "حبوب الغاز" يرتفع شمال غربي سوريا

2022.12.08 | 06:24 دمشق

طبيب في شمال غربي سوريا
طبيب في شمال غربي سوريا
Mirror -ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

مضى نحو 12 عاماً منذ اندلاع الحرب في سوريا، وهذا ما جعل حالات الانتحار في شمال غربي البلاد ترتفع بنسبة ثلاثة أضعاف خلال النصف الأول من عام 2022، بعد انتشار كبير لحبوب الغاز القاتلة التي يستعان بها في تلك العمليات.

يتذكر هاني القطيني من مدينة خان شيخون جنوبي إدلب وهو يحدق بالأفق قريبه الذي أنهى حياته بالانتحار عبر ابتلاع حبوب الغاز، فيقول: "هدد قريبي عبد الحميد بالانتحار مرات عديدة، حيث كان يقول إنه لن يكمل حياته في هذا العالم".

ويحدثنا هاني عن حبيبة قريبه هذا التي قتلت نفسها لأن أباها رفض تزويجها إياه.

انتحار الحبيبين

كان هذا الشاب الأكبر بين إخوته، والمعيل الوحيد للأسرة، بيد أن هاني رفض أن يذكر اسم المرأة أو علاقة قريبه بها بسبب وصمة العار والخوف من الثأر.

A son supporting his mother on their way to receive humanitarian support in a Syrian displacement camp.

ابن يعين أمه أثناء مسيرهما لتلقي المساعدة الإنسانية في أحد مخيمات النازحين بسوريا

اعتقل والدا عبد الحميد على يد أحد الفروع الأمنية التابعة للنظام السوري، حيث أفرج عن والده بعد مدة انتهت بدفع رشوة للضباط في فروع المخابرات السورية، أما أمه فقد بقيت في السجن حتى الآن.

تقدم عبد الحميد لخطبة تلك الفتاة عدة مرات، إلا أن أباها رفضه بسبب وضعه المادي، وأجبر ابنته على الزواج من رجل آخر.

وبعد مرور بضعة أشهر على ذلك، انتحر كلاهما.

Displacement camp in Syria.

أحد مخيمات النازحين في سوريا

للأسف، لم يكن العاشقان الشابان وحيدين في هذا الخيار، إذ كشف بحث جديد أجرته منظمة World Vision بأن وفاة عبد الحميد ما هي إلا حالة من بين حالات كثيرة تدل على ارتفاع مقلق في نسبة الانتحار  في محافظة إدلب وما حولها من القرى والمدن.

إذ تظهر السجلات تضاعف حالات الانتحار الموثقة بنسبة ثلاثة أضعاف، حيث ارتفعت من ثماني حالات إلى 26 حالة بين النصف الأول والثاني من عام 2022، ويعتقد أن الأعداد الحقيقية أعلى من ذلك بكثير.

تجاوز عدد محاولات الانتحار الموثقة عتبة الضعف بقليل خلال الفترة الواقعة ما بين الأشهر الستة الأخيرة من عام 2021 والأشهر الستة الأولى من عام 2022، حيث ارتفعت من 106 محاولات إلى 213 محاولة.

"غيض من فيض"

وحول ذلك تعلق إليانور مونبيو المديرة الإقليمية لمنظمة World Vision المسؤولة عن منطقتي الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، بالقول: "إن الأرقام التي وصلتنا ما هي إلا غيض من فيض".

A typical camp in the Idlib province

أحد المخيمات في محافظة إدلب

بعد مرور عقد ونيف على الحرب، انتشرت المشكلات التي تتصل بالصحة العقلية بين الناس، إلا أن منظمة World Vision اكتشفت بأن الانتحار أصبح هاجساً لدى النساء والفتيات بسبب الانتهاكات وعمليات الزواج القسري التي يتعرضن لها.

تمثل النساء نحو نصف الحالات التي تم توثيقها خلال الفترة الواقعة ما بين آخر ستة أشهر من عام 2021 وأول ستة أشهر من عام 2022، والمقلق في الأمر هو أن الفتيات اللواتي لم يتجاوزن الثامنة عشرة من العمر يمثلن النسبة الأعلى بين مجمل حالات الانتحار الموثقة.

تؤوي إدلب اليوم أكثر من أربعة ملايين نسمة، نصفهم على الأقل نازحون يعيشون في مناطق ذات كثافة سكانية عالية، لدرجة أن البعض وصفها بأنها سجن في الهواء الطلق.

اضطر السوريون لترك بيوتهم والنزوح إلى مناطق أخرى في بلدهم عقب القصف الوحشي المستمر الذي دعمته روسيا، ما أدى لمقتل 400 ألف إنسان.

Murad*, 44, and his 5 children have been displaced from their home in Northwest Syria for the past three years.

مراد، 44 عاماً، برفقة أولاده الخمسة الذين نزحوا جميعاً من بيتهم في شمال غربي سوريا خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

أصبحت المنطقة مكتظة بالبشر، وانتشر فيها أكثر من 1300 مخيم للنازحين بين القرى التي تحولت لمدن مؤلفة من خيام لا تقي من حر الصيف ولا من برد الشتاء.

وتعلق مونبيو على ذلك بالقول: "معظمنا في المملكة المتحدة ينعم بالتدفئة ووجود أربعة جدران وسقف يؤويه، إلا أن سوريا تشهد فترة شتاء مريعة وقاسية، أي أن الوضع سيئ إلى أبعد الحدود، لذلك لا أستغرب أن نشهد هذا المستوى من الانهيار والاكتئاب على مستوى الصحة النفسية إلى جانب حالات الانتحار".

تتجمع الأسر النازحة في كل مكان يمكن أن يتسع لها، أما درجات الحرارة فقد تصل إلى ما دون الصفر، دون توفر الغذاء أو التدفئة التي تساعدهم على أن يحتفظوا بالدفء، ولذلك تنقل تلك الأسر أجهزة التدفئة التي تعمل على الغاز إلى داخل الخيم، مما يتسبب بحالات وفاة مأساوية.

يعيش نحو 82 ألف نسمة في العراء تحت درجات حرارة تصل حد التجمد، حيث يستقرون تحت الأشجار في الحقول أيام الثلج، بحسب ما أوردته الأمم المتحدة من تقديرات.

Omar*, 5, and his family had to relocate to another village in Syria

عمر، 5 سنوات، وأسرته التي نزحت إلى قرية أخرى داخل سوريا

غير أن الناس يفضلون البقاء في تلك المنطقة المتقلقلة طوال المدة التي تضطرهم للبقاء فيها على أن يعودوا للعيش تحت حكم نظام بشار الأسد.

حياة تنتهي بصمت

في مدينة الدانا الواقعة شمالي إدلب يخبرنا الدكتور محمد العلي وهو طبيب متخصص بالأمراض العقلية يعمل لدى مركز النفس المطمئنة بأن أشيع طريقة للانتحار هي التي تعرف محلياً بتناول "حبوب الغاز" وذلك لأنها تتم بصمت.

ويحدثنا عن هذا الوضع بكل أسف، فيقول: "إن تلك الحبوب تنهي حياة المريض بسرعة، وبهدوء، ودون أي عنف".

تباع حبوب الغاز بشكل كبير في المنطقة، حيث تستخدم لحفظ المواد الغذائية، كما أن معظم الفلاحين يستعينون بها ليحافظوا على محاصيلهم.

في البحث الذي أجرته منظمة World Vision لم يتم التطرق لطرق الانتحار مع المشاركين في البحث وذلك بغرض حمايتهم، إلا أن النقاش حول هذا الموضوع مع العاملين على خطوط التماس كشف بأن حبوب الغاز هي الأكثر شيوعاً واستخداماً.

تتألف تلك الحبوب من مبيدات حشرية تضر إلى أبعد الحدود بجسم الإنسان حال ابتلاعها، وهي متوافرة لدى المحال في شمال غربي سوريا، حيث تستخدم لمكافحة الحشرات في البيوت والأراضي الزراعية.

وحول ذلك تقول مونبيو إن السبب الأصلي لذلك يعود للنزاع والنزوح، أما الأعراض فتتمثل بفقدان الأمل، والانتحار، وتضيف بأن فريق الصحة العقلية يشعر بامتعاض شديد لكون العالم لا يهتم لهذا الأمر، وتابعت: "إنهم يقرؤون في الإعلام بأن الأوكرانيين يحظون بأحسن معاملة وهم يستحقون ذلك، لكنهم فقدوا أصدقاءهم وأقاربهم، ولهذا يطلبون من العالم أن يهتم بهم هم أيضاً، لأن الوضع صار أصعب، ولكنهم يتأقلمون بكل تأكيد".

Maram camp, hosting internally displaced civilians, after the cluster bomb attack

مخيم مرام للمدنيين النازحين بعد غارة بالقنابل العنقودية

تدهور سريع في الصحة العقلية

بعد مرور نحو 12 عاما على بداية الثورة على النظام السوري، أصيب الناس بكسرة في قلوبهم، كما عضهم الفقر بنابه، ولم يعد لديهم أي أمل بالمستقبل.

مع استمرار حالة النزوح، وسوء الأحوال المعاشية، ووجود مصاعب متواصلة على المستوى الاقتصادي، أخذت صحة الناس العقلية تتدهور بسرعة.

إذ يخبرنا المهندس الزراعي أنس الرحمن بأن هنالك توصية بعدم بيع حبوب الغاز للقاصرين، إلا أنه لا توجد أي توصية بعدم بيعها للبالغين، نظراً لأهميتها الكبيرة في مجال الزراعة، إذ تحتاج المنطقة حسب قوله لمئات الكيلوغرامات من حبوب الغاز سنوياً وذلك لحفظ المحاصيل المعدة للبيع، وعلى رأسها يأتي القمح والشعير والحمص والفول والعدس.

ويضيف: "لا يمكن الاستعاضة بأي منتج آخر عن حبوب الغاز، كما أن السكان يحتاجون إليها كثيراً في البيوت ولأغراض تجارية يأتي على رأسها حفظ الحبوب وتخزينها".

A person injured in shelling on Maram camp

طفل أصيب في القصف الذي استهدف مخيم مرام

وبحسب ما أورده الطبيب العلي، فإن هنالك وصمة عار سائدة في المجتمع تجاه من يزور عيادة نفسية أو طبيب أمراض عقلية، إذ يقول إن تلك النظرة الخاطئة موجودة في المجتمع حيث يعتبرون أي شخص يراجع طبيب أمراض عقلية مجنوناً أو فاقد الأهلية.

ولذلك فإن وصمة العار تدفع المرضى المصابين بأمراض عقلية لإخفاء مرضهم وعدم الإفصاح عنه أمام المحيطين بهم، مما قد يوصلهم إلى الانتحار في نهاية المطاف.

تقول إحدى المشاركات في الدراسة التي أجرتها منظمة World Vision: "يرتبط "العار" كثيراً بالفتيات في سن معينة داخل مجتمعنا، لاسيما إن كن غير متزوجات، إذ لا يسمح لهن أهلهن بالخروج من البيت بسبب ذلك".

يرى الطبيب العلي بأن المرضى قد يلجؤون إلى السحرة والمشعوذين الذين يزعمون بأنهم قادرون على طرد أعمال السحر قبل أن يفكروا بالذهاب إلى الطبيب، كما أن الصحة العقلية تحتل أدنى منزلة في هرم احتياجات الفرد في تلك المنطقة.

Syrian children stand next to a burnt vehicle

طفلان يقفان بالقرب من سيارة محروقة

هنالك أكثر من 1.7 مليون طفل في المنطقة عرضة لما يتفشى من أمراض تهدد الصحة، مثل الكوليرا التي انتشرت في ذلك البلد، والتي ذكر الدكتور أحمد آصف بأن وضعها "صعب للغاية" في المنطقة.

وعندما تم توجيه سؤال للمشاركين في تلك الدراسة حول عدد المرات التي سمعوا فيها بمحاولات انتحار قام بها أحد الأفراد، أجاب أكثر من نصفهم بأنهم يسمعون خبراً كهذا "كل شهر"، وقال أحدهم: "لا يمكنك أن تتخيل شكل الحياة في شمال غربي سوريا اليوم".

لم يحرم الناس في الشمال السوري من المعونات الإنسانية فحسب، بل أيضاً شهدوا عملاً عسكرياً في شهر آذار 2020 تم بموجبه إنهاء هجمات النظام السوري الذي تدعمه روسيا على محافظة إدلب.

Several cases of cholera were recorded in northwestern Syria

تم تسجيل العديد من حالات الكوليرا في شمال غربي سوريا

الاستيقاظ على زقزقة القذائف

في شمال غربي سوريا، لم يعد أحد من الناس يصحو على صوت زقزقة العصافير أو صياح الديك، بل على أصوات قصف مدفعية قوات الأسد التي تدعمها روسيا.

أصبح من المعتاد أن تتعرض البيوت للتدمير وأن يصاب الأطفال خلال تلك العمليات، بعدما تحول السلام إلى ذكرى بعيدة، ففي يوم الجمعة الماضي أصيبت أسرة كاملة بجراح خطيرة في إحدى الغارات.

في حين أصيب خمسة آخرون، بينهم امرأة وطفل عقب استهداف العسكر لبيت يقطنه نازحون غربي إدلب.

وفي غارة نفذت مؤخراً على مخيم مرام، قتل تسعة أشخاص بينهم ثلاثة أطفال، وأصيب 77 آخرون بجراح.

وبالرغم من كل ذلك، مايزال التمويل المخصص للمعونات يتقلص، مع احتمال إغلاق شريان الحياة الرئيسي الذي تمر من خلاله شاحنات المساعدات قادمة من تركيا إلى تلك المنطقة في شهر كانون الثاني المقبل، في حال عرقلة روسيا التي تستخدم حق النقض لصالح الأسد دوماً، لقرار أممي يقضي بتجديد التفويض لهذا المعبر.

Syrians collect cleaning products

سوريون يستلمون منظفات

"إما أن تخرجوا من البلد أو تموتوا"

وحول ذلك تقول مونبيو: إن خسرنا هذا المعبر الحدودي في شهر كانون الثاني القادم، فإننا سنصبح كمن يقول حرفياً لهؤلاء الناس: أمامكم خيار من اثنين: إما أن تخرجوا من هذا البلد لتتحولوا إلى رقم آخر بين عداد اللاجئين، أو أن تموتوا".

إن قائمة المصاعب التي يواجهها القاطنون في تلك المنطقة طويلة لا تنتهي، إذ يضطر الأطفال للعمل في تهريب الوقود إلى إدلب لمساعدة أسرهم في ظل هذا الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمثل أسوأ أزمة اقتصادية ظهرت في البلاد منذ بداية الحرب في عام 2011.

إذ بحسب ما أوردته منظمة Syrian Response Coordination فإن أسعار الأغذية قد تضاعفت بنسبة 33.4%.

أما العاملون على خطوط التماس فيؤكدون بأن صحة الفتيان العقلية قد تضررت بسبب الأعباء المالية التي يتحملونها عند إعالتهم لأسرهم.

وفي بحث سابق أجري في مخيمات الأرامل في شمال غربي سوريا، تبين بأن 58% من الفتيان الذين تتراوح أعمارهم ما بين 11 عاماً فما فوق قد دخلوا سوق العمل ضمن ظاهرة عمالة الأطفال.

A view of the damage around the site after Assad regime forces target marketplace in rural town of Ariha in Idlib

مشهد للدمار في أحد المواقع التي استهدفتها قوات الأسد في منطقة أريحا بإدلب

أما مصير الفتيات في تلك المنطقة فهو الزواج المبكر الذي ارتفعت نسبته بشكل كبير، إذ يعتقد الأهالي من يأسهم بأن ذلك سيحسن ظروف حياة بناتهم وسيريحهم من لقمتهن.

إلا أن مونبيو تؤكد بأن هذا القرار ليس سهلاً، وتضيف: "إنهم يائسون، لكنهم يعتبرون ذلك بمنزلة دخل بوسعهم أن يحصلوا عليه".

في أيار الماضي، أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن فتى في السادسة عشرة من عمره من ريف إدلب اشترى وتناول حبة غاز، ما تسبب بوفاته، فكانت تلك الحادثة الثانية من نوعها خلال شهر واحد.

بيد أن حالات الانتحار بوساطة تلك الحبوب من السهل أن يتم إخفاؤها حيث توصف بالتسمم من قبل الأهل خوفاً من أن تلحق بهم وصمة عار.

وحول هذا الموضوع يخبرنا أحد المديرين الإقليميين في شبكة دعم الصحة النفسية والاجتماعية والعقلية: "لابد من السيطرة وعلى الفور على عمليات بيع المبيدات الحشرية مع مراقبتها وضبطها وتنظيمها في شمال غربي سوريا".

وتخبرنا مونبيو بأن هنالك حاجة ماسة لخلق فرص لهؤلاء الناس، إلا أن الحديث حول ذلك أسهل من فعله، مع تراجع حجم التمويل.

أصبح أكثر من 40 ألف طفل سوري خارج المنظومة التعليمية، وقد أتى ذلك كنتيجة مباشرة لتقليص الدعم الدولي، كما أن الدعم الأميركي والبريطاني أسهم بظهور أزمة صحية في شمال غربي سوريا بحسب ما سبق وأن أوردته منظمة العفو الدولية.

وهنا تتابع مونبيو بالقول: "من الصعب وأنت تحاول أن تمنح للناس الأمل أن تقول: ستحصل على كذا وكذا إن تعلمت أو حصلت على هذا التدريب، عندما يكون الجواب الحقيقي هو: وما النفع من ذلك؟ لأني إن لم أهرب من شمال غربي سوريا لأتحول إلى لاجئ ولتنتهي بي الأمور على متن قارب أخاطر فيه بحياتي أو في ظل ظروف أسوأ بكثير، وإلى أن يتوقف النزاع فعلياً، من الصعب لذلك أن يتم، لأن كل ما نفعله هو وضع ضمادة على الجرح دون معالجته. لذا، لابد من حل الأسباب الأساسية، كما يجب إعادة هؤلاء الناس البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة إلى بيوتهم مع تمكينهم من العيش والتطور".

المصدر: Mirror