حياةٌ غير آمنة

2019.10.04 | 17:02 دمشق

hyat-_ktab.jpg
+A
حجم الخط
-A

عادة ما تكون السِيَرُ الذاتيةُ التي تعتمد على الذاكرة الشخصية لكاتبها بعيدةٌ في بنائها عن الأدب، لكنَّ أستاذ العلوم السياسية شفيق الغبرا يقدِّم لنا جرعة عالية من الأدب المسبوك وِفقَ مساراتٍ حكائية متنوعة المصائر في كتابه الصادر عن دار الساقي "حياة غير آمنة- جيلُ الأحلام والإخفاقات".

 تأسيسٌ ينطلقُ من لحظة إصدار المذكرات عام 2012، وكأنه يقدِّم تبريراً لسرد الحكايات المختلفة التي تنطلق من الكويت مروراً بلبنان والمملكة المتحدة ومصر وسوريا، في غياب تام لجغرافية فلسطين عن الحدث الحكائي لصاحب المذكرات باعتباره كائناً ذاتياً، لكنها - فلسطين- حاضرةٌ في مصائر كل الشخصيات فمنها المُنطَلَقُ وإليها تتجه الطريق "خروجاً أو دخولاً".

شفيق الغبرا من الجيل الفلسطيني الأول الذي وُلِدَ عقِب نكبة فلسطين، فعاشَ حاملاً صورة فلسطين الحُلُم التي انتقلت له من أمٍّ تظهر في الكتاب "المذكرات" كبطلات الأفلام السينمائية التي تسترقُ النظر من نافذة السيارة الخلفية إلى بيتٍ فلسطيني كبير يبتعِدُ في المدى ويقتربُ أكثر من القلب والذاكرة، خطُّ النظر هذا الذي يصفه الكاتب بكثيرٍ من العاطفة لا يمكن التعامل معه بحياد، إنها صورةٌ ستبقى عالقة في مخيلته ولتكون هيَ –في تقديري- الحكايةَ الموازية لكل حكاية تحدثُ على أيِّ جغرافية، فردود الفعل على الأحداث في شكل السلوك لا تنتقل بالوراثة بحسب العلم لكنها مع شفيق الغبرا تأخذ اتجاهاً آخر، إنها ليست عملية تراكمية ترصُّها الحياة وأيامها، بل هي انعكاس للأب الطبيب الذي خرجَ من عباءة الجد باكراً وليحمِلَ وزرَ تآمر الجميع لإقامة إسرائيل، وهي في ذات الوقت حالةُ الجد من الأم الذي ظلَّ واقفاً بعباءتِه حالماً بعودةٍ - لن تحدث في حياته - إلى أرضِهِ وبياراته.

"أسرتي أتت من فلسطين إلى الكويت بعد قيام إسرائيل، وإسرائيل قامت على حساب فلسطين وأنها أخذت مساكن العرب الفلسطينيين وأراضيهم كاملة وأننا سنعود ونحررها كاملة"

من الذاتي إلى العام ومن الشخصي إلى الجمعي يسير شفيق الغبرا بارتكازٍ ثابتٍ منبَعهُ الرغبةُ في التخلُّص من ثِقَلِ الحكايات الرابضةِ في الذاكرة، فيبدأ تأسيساً لطفولةٍ متعددة الجغرافية في الكويت ولبنان وبريطانيا ومصر لكنها ثابتة الهوية، فينسجُ البناء الاجتماعي من حولِه باعتباره مؤسِّساً لكل ما سيحدث بعد ذلك، فالأسئلة التي طرحها على نفسِه في عمرٍ مُبكر هي التي حددت اتجاهاته في الحياة، أسئلةٌ على شاكلة: "مَن أنا؟، مَن أكون؟، ماذا أريد؟، ماعلاقتي بهذا المحيط؟"، لم يأخذ وقتأً طويلاً للإجابة عن تلك التساؤلات الأساسية فيروي تأسيساً لانتقال جغرافي جديد في الحكاية نحو لبنان بدايةَ علاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية، تلك العلاقة التي نشأت خيوطها الأولى على أرض الكويت، ومن ثمّ انتقالِه بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية طالباً جامعياً ليكون في عالمٍ مفتوحٍ على كل الروايات المتعلقة بفلسطين، هنا لابد من التوقف مع مشهد اختاره الكاتب ليقدِّمهُ عن شابٍ قادمٍ من المشرق العربي نحو أميركا في ذلك الوقت، حيث ساقهُ القدَر شريكاً في السكن لطالبٍ أميركي بكلية  لينكولن التي تشتهرُ بكونِ غالبية طلابها من يهود المنطقة المحيطة بولاية شيكاغو، فنقرأ في الصفحة 62 من المذكرات جواباً للسؤال الأول والأخيرعن بلاد الطالب الجديد، يجيب شفيق الغبرا: "أسرتي أتت من فلسطين إلى الكويت بعد قيام إسرائيل، وإسرائيل قامت على حساب فلسطين وأنها أخذت مساكن العرب الفلسطينيين وأراضيهم كاملة وأننا سنعود ونحررها كاملة"، باختصار شديد يروي الكاتب هذه الحادثة التي ستؤسس فيما بعد في منظومته الفكرية أصولاً للحوار يأخذُ بعين الاعتبار كل المرجعيات الثقافية والمعرفية التي يحملها الطرف الآخر في أي حوار، خاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين.

في مذكرات الدكتور شفيق الغبرا الممتدة على أكثر من 400 صفحة؛ من الصعوبة بمكان تفكيك الحكايات المتشابكة للمسار النضالي الذي اختاره الشاب الذي صار يُدعى حركياً "جهاد" قناعةً وتصميماً بهدف العودة إلى فلسطين، من الكويت إلى لبنان ومنها إلى مصياف في سوريا وثم لبنان مرةً أخرى في أحلكِ ظرفٍ مرَّت به المدن اللبنانية، ولاشكَّ أن هناك جغرافيات أخرى لم يُفصِح الكاتب عنها في سرده لتلك السنوات، تلك السنوات التي حفرت عميقاً في تكوين الغبرا ووضعته في مواجهة حادة مع مفهوم العلاقات الإنسانية وقيمتها في المواجهات العسكرية، فنراهُ يسبر أحوال "السرية الطلابية" و"كتيبة الجرمق" والمشهد المتحوِّل الذي ينتقلُ فيه المركزُ إلى الهامش والهامش إلى المركز بتغيُّر الثقل العسكري في الجغرافية، فمن خلال الكتاب نطوف على المواجهات اللبنانية اللبنانية، واللبنانية الفلسطينية، والفلسطينية الإسرائيلية، والفلسطينية الفلسطينية، في دائرةٍ تُبنى بيد صانعٍ عرَفَ مُسبقاً أنَّ تشابكاتها أكبر من أن تُحكى في عمل واحد.

إن عملية تفكيك الحكايات في كتاب "حياة غير آمنة –جيل الأحلام والإخفاقات-" تحتاجُ إلى إعادة رسم الخرائط المكانية لشوارع المدن اللبنانية وطُرُق الوصول من الشمال إلى الجنوب في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ومعها إعادة فهم وتقييم لبنية العقد الاجتماعي الهش الذي انهار مراراً في لبنان، لكنها تعطينا صورة شاملة كافية وافية عن الفلسطيني الذي خاض تلك السنوات ممسكاً بسلاحِه طامحاً لعودةٍ لم تتحقق، تلك التجربة التي وضعها الدكتور شفيق الغبرا مرةً باعتباره الطفل شفيق ومرةً أخرى باعتباره الشاب المراهق شفيق الغبرا في الكويت ولبنان، ومرةً ثالثة باعتباره الطالب الفلسطيني في أميركا، ورابعاً باعتباره جهاد الفلسطيني في السرية الطلابية، أفردَ مساحةً خاصة في نهاية المذكرات الشخصية لنقرأ لأستاذ العلوم السياسية في الفصل الثامن عشر من الكتاب تقويماً وتساؤلات جوهرية حول التجربة ككل.

على هامش المذكرات وفي ظل الحرائق التي تلتهم بلدناً في المشرق العربي على امتداده، وتلك التي تنتظر حرائقَ كامنةٍ تلوحُ شراراتها الأولى للناظر، لابدَّ من إعادة قراءة المذكرات الشخصية للأفراد الثِقات الذين عاينوا ماحدث بوصفهم جزءاً منه،  ليس لأنها تختصر مراحل عمرية لمئات أولآلاف أو ربما عشرات الآلاف ممَّن عاشوا تجارب مشابهة في الجغرافيات المختلفة، أو لأنها تحمل تكثيفاً مضاعفاً عن حوادث متنوعة، بل لأنه يمكن اعتبارها الرواية الموازية للتاريخ المُدَوَّن الذي نجني نتائجه اليوم وستحمل الأجيال القادمة منَّا مستقبلاً وزرَ ما نصمت عنه اليوم.

كلمات مفتاحية