حول عروبة سوريا

2020.12.14 | 23:07 دمشق

photo_2020-12-13_14-15-46.jpg
+A
حجم الخط
-A

في ردهم على خطاب بشار الأسد أمام رجال الدين في جامع العثمان بدمشق، قال نفر ممن اعتبروا أن الخطاب مس "حقوقهم وهويتهم التاريخية" أن سوريا لم تكن يوما عربية ولا إسلامية، وأنه من الضروري ألا يتضمن الدستور المقبل الإشارة الى الهوية العربية والإسلامية للدولة السورية.

وهذه الدعاوى أعتقد انه لا ينبغي أن تمر لمجرد أن أصحابها أرادوا الاعتراض على كلام بشار الأسد، لأن الأخير قد يقول كلاما صحيحاً، وإن كان يريد به الباطل.

ومن المفهوم أن بشار حاول في حديثه شد عصب نظامه داخليا بالعودة إلى التحالف مع "الإسلام السني" الذي يدين به غالبية سكان البلاد، بعد أن نكل نظامه بهم خلال الثورة السورية، وهدم معظم مدنهم، وهجر نحو نصفهم خارج البلاد، فيما يعتقد أنه استعداد من جانب النظام لأية استحقاقات سياسية مقبلة مثل إقرار دستور جديد أو الانتخابات الرئاسية المقررة عند النظام العام المقبل.

ورئيس النظام في هذا المسعى، لا يقيم بالا لبعض الأقليات العرقية التي لن يعجبها كلامه بطبيعة الحال، مثل الكرد والسريان، والتي أخذ بعض ممثليها الشطط في ردهم عليه، إلى حد نفي صفتي العروبة والإسلام عن سوريا، حاضرا وتاريخيا، وهو كلام مردود، ولا يرفع من شأنه أن بشار الأسد قال نقيضه، ولو أنه خلط بدوره بين أمور شتى، وحاول توليفها لخدمة فكرة محددة، وهي أن العروبة والإسلام، صنوان متلازمان، لا يمكن فصم عراهما، ويشكلان معا الهوية السورية المعاصرة.

هذه الاجتهادات سابقة حتى لولادة حزب البعث الذي اتخذ من القومية العربية أهم شعار له، وبرزت مع انبعاث النهضة العربية في نهاية القرن 19

ومثل هذه الطروحات ليست جديدة في سوريا، وهي تشكل ركيزة أساسية في خطاب الحكم الأسدي، بل والبعثي خلال العقود الستة الماضية، حيث استخدمها هذا الحكم، لتعويض النقص الهائل في شرعيته، داخليا، بوصفه حكما عسكريا انقلابياً وأقلوياً.

والواقع أن هذه الاجتهادات سابقة حتى لولادة حزب البعث الذي اتخذ من القومية العربية أهم شعار له، وبرزت مع انبعاث النهضة العربية في نهاية القرن 19، والتي أسهم فيها بشكل ملحوظ عرب غير مسلمين مثل بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي، ولاحقا ميشيل عفلق وهو من مؤسسي حزب البعث.

وبعد استقلال سوريا، جاء دستور 1950، ليكرس هذه الأفكار القومية بتحديده صراحة هوية سوريا الثقافية كدولة عربية، وكذلك الحال مع دستوري 1973 في عهد حافظ الأسد و2012 في عهد وريثه بشار. وإذا كانت فكرة العروبة شكلت خلال فترات النضال ضد الاستعمار أساسا جامعا لكل المواطنين من مسلمين ومسيحيين، إلا أنها تعارضت في فترة ما بعد الاستقلال مع مبدأ المواطنة واندماج غير العرب، مثل الكرد والسريان والتركمان، في الدولة الوليدة.

ولم يحاول النظام طيلة العقود الماضية إيجاد حلول لهذه المشكلات، حيث لم يكن في جعبته سوى الحلول الأمنية، فعمل على إخماد أية مطالب أو تحركات ذات صبغة أثنية بالقوة، وسعى من جهة أخرى لاستيعاب بعض ممثلي تلك الأقليات، وتأمين مصالحهم الخاصة، وربطهم بنظامه مقابل ثنيهم عن تبني مطالب مجتمعاتهم المحلية.

وفي المقابل، فإن محاولات التشكيك بعروبة سوريا في إطار المناكفة السياسية مع رئيس النظام، أمر غير مقبول، لأن هوية سوريا العربية قضية محسومة تاريخيا ولن يمكن تبديلها، دون أن يبدل ذلك أيضا من الطابع الاستبدادي والإجرامي لنظام بشار الأسد، ومن كون هذا النظام هدر حقوق جميع السوريين، وفي مقدمتهم العرب المسلمين الذين يدعي اليوم الدفاع عنهم.

مهما تضمن الدستور الجديد من كلمات، فإن ذلك لا يغير في الواقع شيئا، لأن عروبة سوريا ليست مجرد كلمات على ورق، بل هي هوية شعب تشكلت عبر مئات السنين

وبطبيعة الحال، لا يخفى أن هذا الجدل ليس وليد خطاب بشار، وسبق أن تردد خلال السنوات الماضية سواء في المساجلات بين النظام والمعارضة، أم داخل أروقة المعارضة نفسها، خاصة عند الحديث عن الدستور الجديد للبلاد، والذي يفترض أن تتحدد فيه هوية سوريا المستقبلية.

ومهما تضمن الدستور الجديد من كلمات، فإن ذلك لا يغير في الواقع شيئا، لأن عروبة سوريا ليست مجرد كلمات على ورق، بل هي هوية شعب تشكلت عبر مئات السنين.

مع الإقرار بحقيقة أن غالبية سكان سوريا هم من العرب المسلمين، فلا يمكن لأحد أن ينكر أنها بلد متعدد الأعراق والأديان والمذاهب، وهي تشهد منذ سنوات ثورة شعبية ضد نمط من الحكم الديكتاتوري العائلي الأقلوي، ومن الطبيعي أن الهدف يكون إقامة حكم مدني ديمقراطي تعددي، يعترف بحقوق جميع مكوناته العرقية والدينية، وتكون الغلبة فيها للقانون المستند إلى دستور عصري ومتوازن.