icon
التغطية الحية

حول الاختلاف المذهبي لمشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي

2022.05.18 | 12:19 دمشق

power-legitimacy-in-islamic-political-thought-ls.jpg
تلفزيون سوريا ـ وائل قيس
+A
حجم الخط
-A

يقدم الباحث سمير ساسي في كتابه "مشروعية السلطة في الفكر السياسي الإسلامي" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراه قراءة مفصّلة لنظام الحكم وتنظيم السلطة في الإسلام، والتي يتناولها من زوايا الاختلاف المذهبي والسياسي وإشكالية العلاقة بين النص والتاريخ عند السُّنة والشيعة في العصر الإسلامي الوسيط.

المفاهيم المؤسسة للمشروعية

  • السُّنة:

يفتتح ساسي الفصل الأول من هذا البحث بتقديمه قراءة لأصل مصطلح "أهل السُّنة والجماعة" الذي يرى أنه واحد من المصطلحات التي تثير إشكالًا مهمًا من جهة تاريخ النشأة والإحالة وتبعاتها السياسية والعقائدية، وأن عبارة "أهل" تعني "أن من تجمعهم هذه العبارة هم واحد في نهاية المطاف"، إذ إنه "في حين استُعمل مفهوم الجماعة في بداية النشأة في إطار سياسي صرف، كان استعمال مفهوم السُّنة عقائديًا خالصًا"، نظرًا لارتباط ظهور مفهوم الجماعة مع معاوية بن أبي سفيان في العام 41 الهجري، عندما أطلق على العام الذي تولى فيه الحكم "عام الجماعة"، في حين لم يعرف "معنى السُّنة في الفترة الأولى من زمن النبي"، حيثُ كان لفظ السُّنة خلال القرون الثلاث الأولى للإسلام "يستعمل منفردًا"، ثم "عرف المفهوم تطورًا مطردًا بحسب المواقف السياسية والمذهبية".

ويصل ساسي في قراءته إلى خلاصة تقول إن مشروعية السلطة لدى فقهاء أهل السُّنة والجماعة قامت على جملة من المفاهيم المرتبطة "برؤية أهل السُّنة مسألة الحكم وعلاقتها بالعقيدة"، والتي يلخصها ساسي بمجموعة من المفاهيم، وهي: "الطاعة والمصلحة والاختيار والشورى وولاية العهد وأهل الحل والعقد والغلبة بالشوكة وأهل الوقت"، ويضيف ساسي معقبًا على هذه المفاهيم بالقول إن تحليل خطاب فقهاء العصر الإسلامي الوسيط من أهل السُّنة كشف لنا "عن وجود رؤية مشتركة بين الفقهاء في بناء نظام الاجتماع السياسي".

كما أنه "لا يمكن الاستناد إلى بعض الاختلافات الفرعية بين فقيه وآخر لبناء استنتاجات لا تسندها حجج قوية من خطاب الفقهاء ولا تدعمها وقائع التاريخ الناجز"، ولذا فإنه بناء على هذه النتيجة لا يرى "مبررًا لما لجأ إليه بعض الباحثين من مقارنات بين هؤلاء الفقهاء"، نظرًا لافتراض المقارنة "وجود اختلاف جوهري في النظر إلى أسس النظام السياسي أو مرجعيته"، وهو ما لا تدعمه مضامين النصوص التي اعتمد عليها في إعداد هذا البحث.

  • الشيعة

يعتبر في مقدمة حديثه عن الشيعة الإمامية أن تعامل الاثني عشرية مع مسألة الإمامة شهد تطورًا أملته ظروف تاريخية وموضوعية، وهو ما يقود لأصل ظهور المصطلح والذي يرى أنه على الرغم من تأكيد النصوص الأولى لمتكلمي الشيعة وفقائهم أن "الإمامة إتمام للنبوة، وأنها من أصول الدين، ولا تكون إلا للإمام المنصوص عليه الذي يتمتع بالعصمة"، فقد فرضت عليهم "غيبة الإمام الثاني عشر  (محمد بن الحسن بن علي المهدي) [تجاوزًا] لهذا القول العقيدي إلى مباحث فقهية تدور حول علاقة الشيعة بالسلطة القائمة والعمل مع السلطان"، وكان لهذا التطور التاريخي أن دفع فقهاء الشيعة ومنظروها إلى "التمييز بين مهمة الإمامة التشريعية والسياسية، خروجًا من الإشكال الذي فرضته الغيبة".

وعلى عكس أهل السُّنة والجماعة، فإن ساسي يخلص إلى أن المفاهيم المؤسسة للمشروعية عند الشيعة تنقسم إلى قسمين، حيثُ تبرز في القسم الأول مفاهيم "النص والوصية والعصمة وعدم جواز إمامة المفضول"، والتي يرى أنها من "التعبيرات الدينية والسياسية للرؤية الشيعية التي تقول في الأساس الديني للسلطة"، بينما تبرز في القسم الثاني مفاهيم "الغيبة والتفويض أو ولاية الفقيه ونيابته عن الإمام المعصوم"، ويرى ساسي في المفاهيم الأخيرة أنها "محاولة للخروج من حالة الفراغ التي عاشها الفقه السياسي الشيعي بعد غيبة الإمام" في المقام الأول، فضلًا عن أنها "محاولة للإجابة عن إشكالية من يمنح مشروعية ممارسة السلطة في غياب الإمام، أهو الفقيه أم الأمة أم كلاهما" في المقام الثاني.

  • المفاهيم المشتركة بين الشيعة والسُّنة

وفقًا لساسي فإنه على الرغم من اختلاف رؤية أهل السُّنة والجماعة والشيعة الإمامية للإمامة والمفاهيم المؤسسة لمشروعية السلطة، فإن ذلك لم يمنع الفريقين من اشتراكهما في إثبات جملة من المفاهيم أو الشروط المرتبطة بتأسيس المشروعية، والتي يرى فيها أنهما يتفقان في اعتبار العدل من "مفاهيم التأسيس لمشروعية السلطة، بل هو جوهر هذه المشروعية"، لكن يختلفان في هذا المفهوم من ناحية قول الشيعة إن العدل "لا ينفصل عن الطبيعة المقدسة للإمام".

في حين ينظر إليه السُّنة على أنه "شرط صحة" لا "تستمر السلطة إلا به"، كما أنهما يختلفان على هذا المفهوم من ناحية العقيدة إذ إنه بينما يفصل السُّنة "العدل عن عقيدة المنتفع به ممن يشمله نظام الاجتماع السياسي الإسلامي"، فإن الشيعة يرون "أن الدنيا والآخرة للإمام، يضعها حيث يشاء ويدفعها لمن يشاء"،  كما يدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق المفاهيم المشتركة بين الفريقين، حيثُ يتقابلان به من ناحية أنها "جوهر السلطة ومبرر وجودها في الاجتماع البشري لمنع التظالم والتنازع"، لكنهما يختلفان عليه من ناحية "تصور كل فريق للإمامة ودور الحاكم والمحكوم في القيام بهذا الواجب".

مرجعية المشروعية

عند الحديث عن المرجعية السُّنية للمشروعية نجد إجماعًا عند أهل السُّنة وفقهاء المدونة تحديدًا على "أن الكتاب، أي القرآن، والسُّنة، أي أحاديث الرسول وأفعاله، هما المرجعية العليا للأمة"، بينما يذهب البعض لاعتبارها "مرجعية واحدة تحت مسمى الوحي الذي يشمل الكتاب والسُّنة"، حيثُ يرى ساسي بالاستناد إلى المراجع التي اعتمد عليها أن الكتاب (القرآن) يمثل مصدرًا للمشروعية تصدر عنه، وذلك باعتبار "أن أساس نظام الحكم في الرؤية الإسلامية مستمد من مصدر أعلى من الدولة ومهيمن عليها"، أما السُّنة فإن الفقهاء يختلفون عليها.

وفي هذه النقطة تحديدًا ترى فئة المحدثين أنها "أقوال النبي وأفعاله وتقريراته وصفاته الخَلْقِية والخُلُقية وسائر أخباره، سواءٌ أكان ذلك قبل البعثة أو بعدها"، بينما يضيف الفقهاء إلى هذا التعريف صفة "يُستدل بها على الأحكام الشرعية"، بمعنى أن صفتها "مصدر للتشريع، وتالية للقرآن الكريم"، كما أن الفريق الثاني يحترز من إدراج الصفات التي هي من خصائصه لأنها في نظرهم "لا تفيد حكمًا شرعيًا يتعبد الناس به".

كما يضاف "التاريخ المشرع" إلى مرجعية السُّنة للمشروعية، وهو ما يندرج في إطار أن يكون التاريخ مرجعًا للتشريع في السياسة لدى فقهاء المدونة، وخصوصًا "ما تعلق منها بمبدأ مشروعية السلطة"، حيثُ بلغ الحضور المكثف – كما يرى ساسي – للتجربة التاريخية للقرون الأولى للإسلام في "الاستدلال والقياس، والدعوة إلى التآسي بها، درجة الارتقاء إلى مرتبة مصادر التشريع من خلال المبدأ الأصولي [إجماع الصحابة]"، وهو من المبادئ المتفق عليها من دون خلاف عن أهل السُّنة والجماعة.

أما فقهاء الشيعة فإنهم يركزون في بحثهم لمرجعية المشروعية على "نقض مفهوم عدالة الصحابي الذي يقول به أهل السُّنة"، وهو ما يندرج في سياق مبدأ "التاريخ المشرع"، حيثُ يرى الشيعة أن هذا المبدأ أوجد مرجعية واقعية "صارت بحكم النقل والتقليد كأنها المرجعية الشرعية التي حددها الله وبيّنها رسوله"، في حين أصبحت المرجعية الشرعية "غريبة لكثرة تناسيها وإبراز المرجعية البديلة عنها"، إذ ينطلق الشيعة في ضبطهم للمرجعية من ناحية أنها "الجهة المختصّة ببيان أحكام العقيدة الإسلامية الإلهية وقواعدها على سبيل الجزم واليقين".

ويعتمد الشيعة في سياق قراءتهم لمرجعية المشروعية على مبدأين أساسيين، وأول هذين المبدأين هو النص الذي يأخذ موقعه في النظرية السياسية الشيعية باعتبار أن "الإمامة عندهم أصلًا من أصول الدين، وأمور الدين توفيقية يحددها الله مثل النبوّة"، بمعنى أنها ليست من الشؤون التي ينظر فيها الناس، نظرًا لأنها أمور مرتبطة بالدنيا والآخرة معًا، وبما أن محددات الإمامة تفرض وجود صفات يختص بها الإمام لا يمكن للناس اكتشافها، فإن النص في هذه الحالة "يكون المحدد والمرجع"، فضلًا عن أنه من لوازم القول بالنص، أي "القول بعدم مشروعية أي إمامة أو خلافة أو حكومة خارجة عن إمامة الاثني عشرية المنصوص عليهم".

في حين يقوم المبدأ الثاني في مرجعية الشيعة للمشروعية على الإمام، حيثُ يجعل الشيعة "النص في خدمة الإمام من منطلق رؤيتهم الخالصة للإمامة"، لكن هذا المفهوم يخرج عن كونه تقلدًا لمنصب الحكم المباشر، حيثُ "لا يشترطون في الإمام مباشرة الحكم وتولي السلطة الزمنية في دولة الإسلام"، لأنه سواء أكان باشر الحكم أو لم يباشره فإن "موالاته من الفروض الشرعية عندهم"، لأن الإمام يكون مرجعًا للسلطة انطلاقًا من مفهوم "المتصدي للولاية" الذي يرجع إليه فقهاء الشيعة، لأنه ليس المراد بالإمام "الذي يعتلي سدة الحكم، بل المراد به الأساس الذي يمنح ذلك الشخص أن يؤسس شكل نظام الحكم أو من يرأسه".

ويرى ساسي في ختام هذا القسم أن التقاء الشيعة والسُّنة على مرجعية عليا تمنح السلطة مشروعيتها لم يمنع اختلافهما في منهج ضبط هذه الشرعية وتنزيلها، وهو ما يعيده إلى اختلاف ناتج عن رؤية عقدية للسلطة والإمامة، إذ إنه بينما يقوم هذان المبدآن عند الشيعة على حسم نظري قاطع لمسألة الشرعية، بالنظر لأن "المشروعية مجال تصرّف يفيض عن مصدر مقدس معصوم، لا يصدر عنه الخطأ"، فإن السُّنة فضّلوا التمييز بين المفهومين رفضًا للنص الشيعي، بمعنى أنهم لم يجعلوا "مفهوم الشرعية مبحثًا خاصًا في مدونتهم السياسية"، وهو ما نتج عنه "إقرار بالشرعية السائدة التي غالبًا ما كانت مخالفة لمرجعية الشرعية"، من دون الخروج عن الإطار النظري المحدد لرؤيتهم السياسية.

أشكال توظيف المشروعية

يرى ساسي في القسم الأخير من هذا البحث أنه لم يكن مفهوم المشروعية مفهومًا مجردًا، ولا بحثًا منعزلًا عن سياقه التاريخي والموضوعي، ولا ترفًا فكريًا مارسه فقهاء السياسة الشرعية في العصر الوسيط، بل كان في قطب الصراع السياسي والفقهي، ووليد الحاجة السياسية للسلطة القائمة والمعارضة على حد سواء، وهو ما جعله "يخضع لعملية توظيف تُحددها هذه الحاجة في مواجهة الجهة المقابلة"، الأمر الذي أدى لاختلاف توظيف المشروعية بين السلطة والمعارضة في التجليات والمبررات.

فقد تعددت تجليات هذا التوظيف – كما يرى ساسي – بين "شرعنة الاستيلاء على السلطة"، بمعنى إضفاء طابع شرعي على الوصول المخالف للمنهج الشرعي إلى السلطة "خارج المفاهيم المؤسسية للمشروعية وخارج إطار المرجعية العليا لهذه المشروعية"، وذلك من أجل إبطال "حجة الخصوم المعارضين والمناوئين لمثل هذا الموقف والمتمسكين بأصول المنهج ورفض الخروج على الحاكم وحرمان المعارضة من هذا الحق"، بالإضافة إلى "استغلال المشروعية من أجل توطيد أركان الدولة وبسط سلطان السلطة القائمة"، والتي يرى ساسي أنها تجليات تمت من خلال مبررات مختلفة، كان أهمها "حفظ وحدة الأمة، ورفض الفتنة، وحفظ الحق برفض غياب السلطة أو حالة الفوضى".

وينتقل ساسي في ختام هذا الفصل لمناقشة توظيف المعارضة للمشروعية، والذي يرى أن توظيف المشروعية لم يكن حكرًا على السلطة القائمة، بل قامت المعارضة بتوظيفها "وفق منهجها الخاص ولغايات غير غايات السلطة"، على أن الطرفين "لم يخرجا من دائرة تأويل النص المؤسس والمرجع للمشروعية"، إلا أن كلا الفريقين زعم أن "تأويله هو مقصد النص، إن لم يكن منطوقه"، والتي كان من ضمنها الخروج على الحاكم، فضلًا عن مجموعة من المبادئ التي تندرج في سياق تحقيق العدل وضمان حق نقد الحاكم وتصويبه.

ويشير ساسي في هذا السياق إلى أنه في إطار المظاهر والمقاصد يندرج الميل إلى "توصيف المعارضة داخل الاجتماع السياسي الإسلامي بكونها حركة إصلاحية في الغالب الأعم، تتحرك وفق ضوابط المرجعية العليا لهذا الموضوع، وتشترك في الأهداف مع السلطة نفسها"، لافتًا إلى اعتبار "الخروج المسلح استثناء يؤكد القاعدة"، حيثُ يدرج ساسي في إطار المفاهيم المرتبطة بالمظاهر "الخروج على الحاكم"، وكذلك "احتكار المشروعية" ويخصه بالمعارضة الشيعية التي قبلت التعامل مع السلطة القائمة كرهًا، وكذلك "نقد الحاكم"، بينما تقوم فكرة المقاصد على ثلاثة مبادئ يحددها بـ"القدح في الشرعية وتحقيق التوازن بين الفقهاء والخلفاء وتحقيق العدل".

ختامًا، لا يمكننا في هذه القراءة السريعة أن نعرض كامل الاستنتاجات والأفكار التي ناقشها محمد ساسي في بحثه "مشروعية السلطة في الفكر الإسلامي السياسي"، بقدر ما همنا المرور سريعًا على أهم الأفكار التي أثارها في أسئلته السياسية المرتبطة بالإسلام عبر عرضه لإشكالية المشروعية السلطة عند فقهاء السياسة الشرعية في العصر الوسيط الإسلامي، والذي حاول من خلال قراءته استعراض الحدود والتأثيرات على الفكر الإسلامي عمومًا، وهو ما أثر في تجربة الاجتماع السياسي الإسلامي ونظامه.