حول أزمات التعليم العالي في محافظة الحسكة

2022.02.22 | 05:53 دمشق

1645376556921576100.jpg
+A
حجم الخط
-A

زادت وتيرة التهم المتبادلة بين قسد ورئاسة جامعة الفرات-فرع الحسكة، فالأخيرة تقول إن قسد تسيطر على مبانٍ ومراكز عائدة للجامعة، والأولى تقول إنها حافظت على أرشيف تلك الكليات التي تضررت خلال عمليات سجن الصناعة في 20/1/2022، وهي مستعدة لإعادة الأرشيف والمباني وكل ما يخدم الدراسة الجامعية، لكن التلكؤ والمشكلة هي لدى رئاسة جامعة الفرات، ليتوقف سجال البيانات والتوضيحات لدى رئاسة الجامعة التي نفت أيّ نية لقسد بإعادة تلك المقتنيات، وفي المحصلة فإن الطالب وحده من يدفع فاتورة هذه الخلافات، ويقع ضحية إمكانية نقل بعض فروع الجامعة إلى دير الزور الخارجة عن منطق الحياة والعيش؛ بسبب الوضع الأمني والمعيشي المزري.

 المشكلة ليست بالجديدة، فعلى طول سيرة المعارك والاشتباكات في محافظة الحسكة، وصراع السيطرة بين الإدارة الذاتية وحكومة النظام شكلت الكليات الجامعية سواء المباني أو العملية التعليمية والامتحانية، الحلقة الأضعف في كل مرة، عدّا تكرار رغبة الإدارة الذاتية سابقاً، بالسيطرة على تلك المباني وتسخيرها لخدمة تعليمها وسياساتها، وهو ما تسبب بتوقف الدوام الجامعي لعدة مرات. في المقابل فإن بقاء تلك الكليات في أحياء سكنية تشهد بين الحين والآخر اشتباكات ونزاعات للسيطرة، شكلت هي الأخرى نواةً لتمييع وفشل التعليم الجامعي الحكومية، ولو وُجدت الإرادة السياسية في إنقاذ الطالب ومستقبله الجامعي من كِلا الطرفين لكانت الحلول سهلة جداً، منها عدم تدخل الإدارة الذاتية بتاتاً في الشأن التعليمي الخاضع لسيطرة قوات النظام، أو نقل مراكز ومقارّ تلك الكليات إلى مدينة القامشلي على سبيل المثال، في مساحات تسيطر عليها حكومة النظام وحدها، والأغلب أن الأخيرة أيضاً "سعيدة" بضياع مستقبل الطلاب، لأنها لم تؤسس لجامعة عصرية قبل أو بعد الــ2011، بل مجرد هيكل تعليمي اقتصرت فائدته الوحيدة كونه فرصة لأبناء الفقراء لتتمة دراستهم الجامعية عوضاً عن السفر لخارج المحافظة.

تعليم بائس ومتهالك قبل الـــ2011

على العموم فإن قضية التعليم في محافظة الحسكة تتقاطع مع مثيلاتها في باقي المحافظات السورية، وتمتاز بخصوصية بائسة ومتعبة تميزها عن سواها. ففي خلفية القضية التعليمية، ظلت المحافظة على طول تاريخ وزارتي التعليم العالي، والتربية في سوريا مهمشة ومحرمة على صعيد الإيفاد الداخلي-الخارجي للدراسات العليا (ماجستير، دكتوراه) ويشهد على ذلك العدد المتدني لحملة تلك الشهادات، إذ يكفي القول إن الغالبية العظمى من أساتذة المقررات الرئيسية في جامعتي الفرات الحكومية، وقرطبة الخاصة قبل وبعد الــ2011 كانوا من جامعتي دمشق وحلب، للتغطية على نقص الكوادر، أو "تمريق" تدريس حملة الشهادة الجامعية في تلك الجامعات في مخالفة فاضحة للعرف والشروط المتبعة عالمياً للتدريس في أيّ كلية أو فرع جامعي/معهد. وعانى التعليم ما قبل الجامعي من كتلة صُلبة من المشكلات ومثبطات التعليم بدءاً بغياب البنية التحتية السليمة للمدارس وغياب الملاعب وصالات الرياضة الخاصة بالطلاب، وضعف تجهيز المخابر والمكتبات، وفرض كتلة من مدرسي الساحل السوري على ملاكات محافظة الحسكة، وإبعاد أبناء المحافظة بحجج أمنية أو غيرها، كما حصل في مسابقة تثبيت عام2008، ووجود قرابة /1250/شاغرا لمختلف التخصصات في كامل محافظة الحسكة، وتم الاكتفاء بتعيين قرابة /300/ مدرس ومعلم، واستحضار ضعفهم من مختلف المحافظات السورية الأخرى.

واقع جامعي غير متشابه مع غيره

وإن كانت هذه المشكلات تعاني منها قطاعات وشرائح شعبية عديدة، ومحافظات أخرى افتتحت فروع جامعية فيها قبل الـــ2011، مثل جامعات إدلب، السويداء، حماة حيث تشاركهم في العديد من تلك القضايا والمشكلات. لكن راهنُ الأعوام الماضية شكَّلَ اختلافات جذرية في بنية التعليم، كعدم نيل جامعات وشهادات الإدارة الذاتية أيَّ اعترافٍ من أيِّ جهة، في مقابل حصول خريجي مدارس وجامعات مناطق شمال غربي سوريا على اعتراف رسمي من وزارة التعليم العالي في تركيا بما يمكنهم من تتمة تحصيلهم في التعليم العالي والدراسات العليا في أيّ جامعة تركية وهو تالياً يشكل ضماناً لمستقبل الطالب، (والحديث هنا تربوي وتعليمي وليس تقييما سياسيا أو عسكريا لتلك المناطق). إضافة إلى حصص ضخمة لأبناء محافظات معينة في الإيفاد الداخلي والخارجي لتتمة الدراسات العليا، وبقاء البنية التحتية لجامعة الفرات-فرع الحسكة مهترئة وغير صالحة للعلم والتعليم، وتناقص عدد طلبة الجامعة لأسباب مركبة منها الهجرة، الوضع المعيشي إذ يحتاج طالب الفروع العلمية لقرابة /100$/ شهرياً بالحد الأدنى خاصة إذا كان من خارج مدينة الحسكة، الخوف على مصيرهم من الاشتباكات، السوق للخدمة الإلزامية.

مشكلة بنيوية منذ عقود

لكن المشكلة المركزية والمحورية التي تسببت بها سياسات التعليم في كل سوريا، وهتكت جسر بناء الدولة والمواطنة والعيش المشترك، هو تشارك المنهاج السوري، والسياسات التعليمية في شمال شرقي سوريا، وشمال غربي سوريا، بغياب ثقافة بناء مفهوم المواطن الذي يُشكل ركيزة أساسية للنظم الديمقراطية التي تنتهجها الدول الحديثة، ومستنداً عملياً للسلوك الإنساني في الجماعة داخل الدولة. و"المواطنة" ليست حالة طبيعة منجزة معطاة بحيث تولد مع الإنسان في فطرته، بل إنها مجموعة من الخصائص والصفات التي يكتسبها الإنسان اكتساباً بالتربية والتعليم والمناهج المدرسية والممارسة الحياتية، وهو يستمر في تحقيقها وتطويرها وتحسين أدائها في جميع مجالات حياته الفردية والعائلية والاجتماعية والسياسية. من هنا، فإن "التربية على المواطنية" باتت تشكل منذ زمن مكوناً رئيسياً من مكونات النظم التربوية في الدول الديمقراطية أو الدول المتجهة نحو الديمقراطية، بحيث تقوم بدور لا غنى عنه في تكوين الروابط المدنية التي تبنى عليها هذه الدول. كما يشكل الهدف الاستراتيجي من "التربية على الديمقراطية" تأمين الشروط الكافية لتكوين مواطن مسؤول، ذاتي التصرف والسلوك، ومتمكن من المشاركة في الحياة الاجتماعية والمهنية داخل الجماعة، ومن ممارسة التفكير النقدي المستقل فيها، على نحو أفعل وأنجع، وليس مما تؤمنه "مادة التربية الوطنية-القومية" والتنشئة المعمول بهما حالياً في تلك المدارس وإن على اختلاف تسميات المقرر المدرسي. فالتربية على المواطنة والديمقراطية معيار مهم لتقييم بناء شخصية الفرد وكيانه، ومن شأنها إبراز البُعد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الكامن في العلوم التي يتلقاها في المدرسة والجامعة، كما أنها تساعده على حُسن توظيفها في حياة الجماعة ككل.

لذا تعد المناهج الدراسية الأداة الأساسية التي تستخدمها الدول المتطورة والنظم الديمقراطية في تحقيق غاياتها التربوية، وتصوغ قيمها وتُحدد فلسفاتها، فتحتل المنزلة المركزية في العملية التعليمية، إضافة إلى الطالب والمعلم والمدرسة. وعادة ما تلجأ الأنظمة غير الديمقراطية إلى أذرع خاصة لفرض سياساتها المتبعة، سواء عبر المناهج المدرسية مثل مقررات الدراسات الاجتماعية والتي تضم التربية القومية والوطنية ومقررات التاريخ والجغرافية، أو عبر منظمات شبابية طلابية مثل منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة، أو الأخلاق والمجتمع وأجنحة إيديولوجية للسيطرة على المدارس والطالب، فكيف سيكون دور العلم كأداة للتنشئة في ظل تغول الإيديولوجيات وغياب ثقافة المواطن، وهل كُتب على هذه المنطقة أن تبقى فاقدة للأهلية التعليمية عبر مناهج مسيسة سابقاً وحالياً في ظل الإدارة الذاتية، وهل غياب ثقافة المواطنة والنظم الديمقراطية والأدلجة ظاهرة عالمية موجودة في كل المناهج أم إنها تتبع لسياسات حكومية معينة خاصة بدول وأنظمة محددة.

قضية ومشكلة التعليم في الحسكة ليست بالجديدة، وإن كانت تتقاطع مع باقي المحافظات، لكنها دخلت في نفقٍ مظلم منذ بدايات الــ2011، ولم تسع أيُّ جهة للبحث في مصلحة الطالب والمنهاج وبناء ثقافة تشاركية.